الروائي في رأسي
مؤخّرًا، أجد نفسي أعيش داخل رواية غير مكتوبة، وكأن كل موقف يمر بي هو سطر في كتاب طويل، لا أعرف خاتمته، لكنني أستمتع برسم تفاصيله. لا أرى اللحظات كما هي فحسب، بل أستشعر ما خلفها، وما تحتها، وما يمكن أن تحمله من معانٍ. حتى أبسط التفاصيل تأخذ حيزًا في ذهني، أُعيد تشكيل أحداث أيامي بأسلوب أدبي كمن يسعى لنسج خيوط المعنى من الفوضى اليومية.
أصبح لكل لحظةٍ في حياتي نغمة سرديّة. فمع كل خطوة مسرعة في الصباح، وأنا أتنقل بين الزحام والوقت، ينبعث في داخلي صوت روائيّ خفيّ، يروي لي تفاصيل يومي بلغة فصيحة وأنيقة لا تخلو من الجمال والعبر، كما لو أنني الشخصية المحورية في قصة لا تُروى إلا لي.
أشعر أنني أمزج الواقع بالحلم؛ حين أرى مشهدًا طبيعيًا يلفت انتباهي، أو حين ألتقي بشخص يحمل في وجهه بساطة الخير، أبدأ بتفكيك تلك اللحظة إلى كلمات، إلى استعارات وتشبيهات، وكأنني أكتب كل شيء في عقلي لأبقي به في مساحة تتجاوز اللحظة العابرة.
حتى الأوقات الصعبة التي قد تبدو بلا معنى في لحظتها، تُعيد اللغة ترتيبها في ذهني كجزء من حبكة أعمق، حيث تتحول معاناتي إلى دروس، والعثرات إلى مواقف حتمية لا غنى عنها في بناء هذه الحكاية. كأنني أعيش بين سطور رواية تُكتب كل يوم. أصبحتُ أرى أن الألم والفرح، التعب والراحة، كلها عناصر متوازنة تضيف تفاصيل للقصّة التي أحياها، حتى في لحظات العزلة والصمت، يتحول العالم من حولي إلى مادة للكتابة، حيث يصبح الصمت نفسه جزءًا من السرد.
إن هذا السرد الداخلي يمنحني قدرة على تحمّل اللحظات التي قد تبدو عابرة وغير مهمة، لكنه يملأها بالمعاني، ويُكسبها عمقًا يكاد ينسج من اليوم العادي لوحة فنية تستحق التأمل.
هذا الصوت الداخلي أصبح درعي الذي يحصنني من أوجاع الحياة وخيباتها. يهمس لي بحكمة لا تخطئ، بأن الأشخاص في حياتي ليسوا إلا شخصيات عابرة في فصل من روايتي الطويلة. لا حاجة للاستسلام أو الفزع حين ينكسر قلبي، أو حين تخيب توقّعاتي بسبب أحدهم. فدورهم قد انتهى في حكايتي، كما تنتهي أدوار كل الشخصيات في الروايات. الخذلان الذي نعيشه في فصلٍ ما لا يعني نهاية الكتاب، بل هو جزء من حكاية تتوالى فصولها، حتى وإن كان الخذلان حادًا في هذا الفصل.
هذا الصوت لا يترك لي مساحة للتعمق في الألم أو للتفكير في ما كان أو ما سيكون. إنه يسرد لي مشاعري ببرودٍ واعٍ، وكأنني أشاهد قصتي وأراقبها من بعيد. أصبحت أشعر وكأنني أعيش حياتي من وراء شاشة سينما، أتابع أحداثها كما لو كانت غريبة عني، أقرأ سيناريو مكتوبًا بحذر، دون أن أسمح لنفسي بتجربة كل مشاعر القصة بكل عنفوانها.
أتساءل أحيانًا، هل هو خير لي أم شر؟ هل هذه المسافة التي يضعها الصوت بيني وبين مشاعري تحميني فعلاً أم تجعلني أقل إنسانية؟ لكنني في النهاية، أعلم أنني لست مضطرة للإجابة. كل ما أعلمه أن هذا الصوت يخفف عني وطأة الخيبة. يمنحني القدرة على الوقوف مرة أخرى، عندما يُخيبني من كنت أظن أنهم جزءٌ أساسي من حياتي، أو عندما يفشل حلم بنيته بجهد كبير. يجعلني أرى أنني لا زلت في أول الطريق، وأن كل فصل يمتلئ بالحزن والتعب لن يكون سوى تمهيد لفصول أخرى قادمة، فصول لم تُكتب بعد، قد تحمل معها فرحًا لم أتصوره.
ربما أنا لا أعيش المشاعر كما يجب، وربما لا أختبر كل لحظة بعمقها الحقيقي، لكنني أدرك أنني بحاجة لهذا الصوت. هو ما يبقيني صامدة، ما يجعلني أتحمل أعباء الحياة دون أن أغرق في تفاصيلها التي قد تسحقني في أيّة لحظة.
إنه يعلمني أن الحياة ليست دائمًا بحاجة لتحليل أو استنزاف، بل أحيانًا تحتاج فقط إلى المتابعة، إلى تجاوز اللحظة، إلى أن أتركها تمضي كما هي، وأنتظر الفصول القادمة، حيث قد تنتظرني قصصٌ جديدة، وأشخاصٌ آخرين يكملون معي الحكاية.
بارك الله حرفك دكتورة لا تحرمينا اياه مطولا هكذا.. لكن ملاحظة بسيطة، في كل رواية يوجد دائما شخصيات تستمر مع البطل للنهاية ويكملون معا القصة، مهما حصل تذكري اولئك المجودين بجانبك منذ الفصل الأول، مؤكدا لهم خيباتهم، إلا انهم دائما هناك..في انتظار المدونات القادمة…
ReplyDelete