أضحَك يوم في حياة أمجد

في أحد الأيام، ذهبت لأصطحب أمجد -ابن أختي البالغ من العمر أربعة أعوام- من المدرسة. كان لدينا خطة للخروج سويًا، فسألته عن المكان الذي يود زيارته، فأجاب بحماس أنه يرغب في الذهاب إلى مكان يبيع عصير البطيخ.


بدأت أبحث في المحال عن أي متجر يقدم عصير البطيخ، ولكن دون جدوى. بعد بحث طويلٍ دخلت أحد المحلات، وكان أملي الأخير، وسألت البائع إذا كان لديهم عصير البطيخ. فردّ بخدعة تسويقية واضحة: "لا، لكننا نمتلك عصير فراولة رائع."


كنت مرهقة من البحث المتواصل، ولم أُرد أن يحزن أمجد، فقررت القبول بعرض البائع. قلت له: "حسنًا، سآخذ عصير الفراولة لكن قُل للطفل أنّه عصير بطيخ." عندما أحضرَ البائع العصير، أخبرنا أمجد بأن هذا العصير هو عصير البطيخ الّذي بحثنا عنه طويلًا، وبالفعل انطلت عليه الخدعة.


شرب أمجد العصير بتلذذ واستمتاع، وبقي شاكرًا لي لأنني بحثت بجهد كبير حتى وجدت عصير البطيخ الذي يرغب فيه. أثناء مغادرتنا للمحل، احتضنني أمجد وقال: "هذا أضحك يوم في حياتي" تعبيرًا عن مدى سعادته بعصير البطيخ المزيّف.


خدعت أمجد ذلك اليوم وصنعت من نفسي بطلة زائفة. عندما سمعته يروي القصة لوالدته ولكل من يراه عن خالته الرائعة التي بحثت عن عصير البطيخ في كلّ مكان حتّى وجدته، شعرت بالذنب لأن "أضحك يوم" في حياة طفل صغير ما هو إلا محض خدعة.


للتكفير عن ذنبي، بدأت أشتري له عصير البطيخ الحقيقي بشكل دوري. ومع ذلك، في كل مرّة يصرّ أمجد بأن عصير البطيخ الذي شربه في المرة الأولى كان أفضل عصير بطيخ شربه في حياته.


ما لم أفهمه أنّه وعلى الرغم من أنني خدعته، إلا أن سعادته كانت حقيقية وبريئة، مما يثير تساؤلاتي حول مدى أهمية الحقيقة في سعادتنا اليومية.


هل السعادة المرتبطة بالوهم أقل قيمة من السعادة المرتبطة بالحقيقة؟ 


إذ يبدو أن السعادة غالبًا ما تعتمد على تصوراتنا وقناعاتنا، وليس بالضرورة على الحقائق الموضوعية. بالضّبط كما أمجد، رغم شربه عصير الفراولة وهو يعتقد أنه عصير البطيخ، اختبر فرحًا خالصًا وأشاد بتلك اللحظة "كأضحك" لحظة في حياته، وحتّى بعد أن صارحته بالحقيقة، ضحك بشدّة وقال "لا يهم، لا يزال أضحك يوم في حياتي" .


الأطفال، بطبيعتهم البريئة والمليئة بالخيال، يعلموننا أن العالم قد يكون أجمل عندما نراه من خلال عيونهم. ربما يكمن جزء من الفلسفة الحقيقية للحياة في قدرتنا على خلق السعادة ومشاركتها، حتى لو كانت مبنية على تفاصيل غير دقيقة أو حقائق مغايرة. فالأهم في النهاية هو الشعور الذي نحمله والذكريات الجميلة التي نصنعها مع من نحب.


تقودني هذه القصة إلى قصة لقاء الفيلسوف ديوجين بالاسكندر المقدوني.


كان ديوجين Diogène المعاصر لأفلاطون وأرسطو وتلميذ سقراط فيلسوفًا متشرّدًا، وأحدَ رُواد المدرسة الكلبيةCynicism. يعيش في "برميل" ويتجوّل في أثينا في وضح النهار حاملًا فانوسًا مضاءً، وكان يسيطر عليه احتقار الثروة والمجد والسرور وتفضيل الفقر والغموض والألم والموت عليها. 


حاول ديوجين تطبيق مبدأ "الاكتفاء الذاتي" في حياته، فعاش بالتسوّل، ونام في أروقة المعابد، وكان يرتدي الخِرَق معتقدًا أن الفقر يقدّم للفيلسوف مساعدة لا يمكن تعلّمها في الكتب، متّبعًا في ذلك منهج المتشائمين الذين يعتمدون على الطبيعة في كل شيء، ويكتفون بالأساسيات، وهو بذلك كان سعيدًا!


غادر ديوجين أثينا ليقيم في مدينة كورينثوس وهي إحدى المدن العظيمة التي نافست في أهميّتها أثينا والتي ارتبطت بأهمّ حلقاته ومحاوراته. وفي سنة 336 ق.م، ذهب ملك مقدونيا "الإسكندر الأكبر" إلى كورينثوس حيث التقى بديوجين الذي كان قابعًا في جوف برميله المتهالك، فاقترب منه وأجرى معه محاورة خُلِّدت في كتب التاريخ والفلسفة. 


قال الملك لديوجين:

- أنا الإسكندر الأكبر.

وقال ديوجين بهدوء وثقة:

- وأنا ديوجين المتسوّل.

هنا اقترب الملك من الفيلسوف قائلاً:

- أراك محتاجًا إلى أمور كثيرة وتسرّني مساعدتك، إسألني، سأعطيك كلَّ ما تريد. 

فأجاب ديوجين:

- نعم، قف بعيدًا عن شمسي!


فوجئ الإسكندر بردّ فعله، وأُعجب بغطرسته وعظمته وقال لأتباعه الذين كانوا يسخرون من الفيلسوف: "هذا البرميل مليءٌ بالحكمة، ولو لم أكن الإسكندر الأكبر لوددت أن أكون ديوجين". 


كان بإمكان ديوجين أن يطلب أي شيء، لكنّه رأى أن سعادته الحقيقية تكمن في برميلٍ متهالك، وشعاعٍ من الشّمس والقليل من الوهم.


Comments

Popular posts from this blog

أبوابٌ لها أبواب

تعال

الروائي في رأسي