غِطاء القهوة البلاستيكي
جرت العادة أن أذهب لأصطحب صديقتي حين نخرج معًا، وفي كلّ مرّةٍ نشتري القهوة سريعًا من بائِعٍ على الطريق، يضع لنا غطاءً بلاستيكيًا على الكوب. وكنت أنا أزيله دائمًا وألقيه في القمامة فورًا، مما كان يثير غرابة صديقتي. كانت تقول لي: "حذارِ، ستنسكب القهوة عليك يومًا ما بلا شك، وستحرقكِ!" لكنني لم أكن أكترث، واستمررت في فعل ذلك، كنت أقول لها: "لغطاء القهوة عندي معنىً فلسفي عميق لو أنّكِ تدركين."
مرّة شرحتُ لها كم أكرهُ المجهول، لا أطيق فكرة النظر إلى الكوب دون أن أرى مقدار السائل فيه، خصوصًا إذا كان ساخنًا. قُلت: أنا أحبُّ اليقين، ولا أحب أن أتعامل مع الأمور كما يتعامل شرودينغر مع قطّته.
شرحتُ لها أنني أُعامل حياتي كلها بنفس النّهج الّذي أُعامل فيه غطاء قهوتي. المستقبل مثلًا يرعبني، إذ يربكني كل شيء مُبهم وغامض، لذلك فإنّ كل غطاء أزيله هو رمز لإصراري على رؤية الأشياء كما هي، دون حواجز أو عوائق، دون أن يخفى عنّي شيء.
فكرة المجهول تشبه الكوب المغطّى، تخفي عنا ما قد يكون، تجعلنا نتساءل، نخشى، ونتردد. لكن إزالة الغطاء هي إقدامٌ لمواجهة الحقائق، رغبة في الشفافية والوضوح، حتى لو كان ذلك يعرّضني لخطر الحرق أو الإصابة. الحياة مليئة بالأغطية التي نحاول نزعها، بعضنا يفضّل الاحتفاظ بها خوفًا من الألم أو الخسارة، لكنني اخترت أن أعيش بشجاعة، أن أزيل الأغطية وأواجه ما يكمن تحتها، أن أرى الحقيقة بعيني، مهما كانت محمومة أو مخيفة.
في لوحته "ابن الإنسان"، جسّد الفنان "رينيه ماغريت" المعنى الحرفي لما أقوله، إذ رسم تفّاحة تغطي وجه رجل ليقول أن الإنسان دائمًا يطمح لرؤية خلف ما يرى، وأنّ كل ما نراه يخفي شيئًا آخر.
-لكن، هل يُزعج موقع التّفاحة في اللوحة الجميع؟
الفيلسوف اليوناني أفلاطون (Plato) في كتابه الشّهير الجمهورية (Republic) يتحدّث عن اسطورة وهي أسطورة الكهف(Allegory of the Cave) وتصوِّر الأسطورة جماعة من الناس أمضوا حياتهم كاملة في كهف تحت الأرض مكبَّلين بالأغلال، رؤوسهم مثبَّتة وموّجهة نحو الجدار الذي أمامهم مباشرة، وتشتعل النيران من ورائهم، وتعكس على الجدار من أمامهم ظلال الناس والأشياء الموجودة في الخارج، وهذه الظّلال هي الشيء الوحيد الّذي يرونه ويتحدثون عنه معتقدين أنها الحقيقة الوحيدة.
لاحقًا يتحرر أحدهم ويخرج من الكهف، ولمّا يُبصر النّار للمرة الأولى تؤلمه عيناه، ويظن أنّ النار هي المصدر الأوحد للضوء، ثم يبدأ تدريجيًّا في رؤية حال الكهف على نحو أفضل ويفهم منشأ الظلال الّتي انعكست على الجدار التي كان قد عدَّها حقيقية في السابق، فيدرك أنَّها لم تكن إلا وهمًا. وأخيرًا ينطلق خارج الكهف إلى العالم الذي تضيئه الشمس، فيشعر بالدوار عند رؤيتها أول مرة؛ إذ يتطلب الأمر الاعتياد على الضوء الساطع وعلى رؤية الأشكال الحقيقية للأشياء بعد أن كانت معروفة بالنسبة له بوصفها ظلالًا، فيدرك بعدها ما هو المصدر الحقيقي للضوء.
ولمّا عاد إلى الكهف مرة أخرى لمساعدة رفاقه على فهم حقيقة عالم الظلال الذي يقطنونه، لم تعد عيناه ترى بوضوح في الظلام، ورفاقه الذين عاد من أجلهم يرون ما يقوله غريبًا وسخيفًا، بيد أنّهم عدَّوه مجنونًا؛ حيث يرى من يُشكِّل عالم الظلال مصدر قوّتهم وسلطتهم، أنّ الشّجعان الأحرار مصدر خطرٍ يجب السّيطرة عليه، حتّى أنّهم قد يلجأون إلى العنف أو القتل لإزالة هذا الخطر.
تمامًا كمن يخاف انتزاع غطاء القهوة، أو من يرى أنّ التفاحة في اللوحة تقع في مكانها المُناسب!
أحيانًا يعمل عقلنا كما لو أنّه "سِتارة" تحجب عنا الحقيقة الأصلية للأشياء. هذه الستارة تمنعنا من الوصول إلى ما هو وراء الظواهر المادية والسطحية، وتجعلنا نعتمد على تصوراتنا وأفكارنا المسبقة لفهم العالم. حيث أن العقل البشري قد يكون عرضة للخداع أو التحيّزات والتصوّرات السطحية التي تقيد قدرتنا على فهم الحقيقة. لذا فإننا بحاجة أحيانًا لكسر هذه الستارة وإزالة الأغطية للوصول إلى فهم أعمق وأكثر شمولًا للواقع.
-وأنت، هل تشربُ قهوتك مع غطاء أم بدون؟
Comments
Post a Comment