الاستعارة الثّانية-الفتاة الّتي رسمت الحياة
في شرنقة مساحتها الضّيقة، عاشت فتاة في عزلة تامة لمدة اثني عشرَ عامًا، يحيط بها فقط بياض الجدران الفارغة ورفقة بسيطة من الأوراق البيضاء والألوان.
لم تثنها حدود واقعها، عن الشروع في رحلةٍ عبر خيالها لرسمِ الحياةِ داخل حدود الأربعة جدران.
ابتدأت مغامرتها الفنّية بضرباتٍ دقيقة هادئة، كل لمسة فرشاة كانت محمّلة بوعدٍ صانته في روحها، أنّها بالرغم من كل شيء، ستلد الحياةَ في لوحاتها. ظهر الّلون الأخضر كملهمٍ متكرّرٍ على الجدران، حيثُ رسمت المروج المليئة بشغبٍ من الزّهور البريّة والأعشاب. حتّى أنّ الهواء حولها بدأ يتلألأ برائحة الأزهار، وتحولت الغرفة إلى ملاذ لمشاعر الزّهور وعِطرها.
أصبح السّقفُ سماءً زرقاءً فاتحةً فوقها، لوحة بديعة، تدوي بظلال سماوية تتماثل مع الامتداد الشاسع الذي تتوق لاكتشافه. وزيّنت أوراقُ الخريف المشتعلة باللونين الأحمر والأصفر الناريّين الأرض، لتجسد الدورة الطبيعية للحياة والجمال الموجود في التغيير الحتمي.
كشفت كل ضربة فرشاة عن قصةٍ في سرد حميميّ منسوج في بنيةِ فنّها. وزينت أزهار الكرز الرقيقة الغرفة، حيث تلتقط بتلاتها المتساقطة بهدوء جوهر السّكينة والسّلام حتّى في أشد العواصف. ظهرت ليالي القمر المنير في مشاهد هامدة، لتقدّم الأنس لها في وحشة ليلها الّتي فرضت عليها.
كان ارتباطها غير العاديّ بالحياة هو الذي قدّم لها القدرة على منح الحياةٍ للموت، واتمام النّقص وإكماله، والمسحِ على أي فراغٍ حتّى تُعطيه المعنى. ولمّا جفت آبار الطلاء والألوان الخاصّة بها، ضحّت بلحمها، فقطعت أصابعها لمواصلة تعبيرها الفني. بعزيمةٍ شجاعةٍ، والكثير من الجنون، وبضرباتِ قويّةٍ محمّلة بالهزيمة والانتصارِ، باليأسِ والأملِ معًا، رسمت بالدم الذي سال، ورودًا تزيّن الغرفة في سيمفونية حمراء تُعلن بها عُمق الحُبّ الخاسر.
مع سقوط آخر إصبع، انتهت مدّة حبسِها، أخرجوها من الغرفة، تاركةً خلفها مكانًا خياليًّا ينبض بالسّحر والبَهار.
كانت الغرفة معرضًا للمشاعر. لوحاتها، التي تشهد على عمق الحسّ الفنّي في روحها، تركت المشاهدين في حالة من الرّهبة. لقد أعجبوا بالتفاؤل غيرِ المُدرك الذي يشعّ من الجدران، ومع ذلك فشلوا في فهم الرحلة العميقة وراء كل ضربة.
راحت هي تختبر الحياة الحقيقية، وبصعوبة يومًا بعد يومٍ تتقبّلها، إذ أنّ الحياة الّتي رسمتها وحملتها في جوفها كانت أجملُ وأرقُّ من بشاعةِ ما رأته.
مدفوعون بالحسد والمحاكاة الخاطئة لفرحِها المُفترض، اختار آخرون حبس أنفسهم في حبسٍ مماثل. متجاهلين جوهر فنّها ومن غير فهم أن الألوان الحقيقية للحياة لا توجد في الحبس ولكن في استكشاف العالم الّذي يحمله المرئ في خلده.
في نهايتهم المأساوية، أصبحت الغرفة المغلقة قبرًا صامتًا. استسلموا لثقل العزلة التي فرضت عليهم. حرموا أنفسهم من الجوهر الحقيقي للحياة، وأجسادهم، مثل اللوحات المنسية، ظلت ساكنة، وظل صندوق الألوان المغلق رمزًا يطارد آمالهم غير المحققة. كانت الألوان النابضة بالحياة التي تزين عالم الفتاة بعيدة المنال عنهم، وأصبحت الغرفة التي من المفترض أن تكون ملاذًا للإبداع تذكيرًا مؤلمًا بكلفةِ سوء الفهم الحقيقي لمعنى الحياة.
Comments
Post a Comment