الاستعارة الرابعة-العجوز وكومة الصناديق


في بلدة هادئة تحيط بها التلال المتدرّجة، عاشت عجوزٌ كانت معروفة بين أهل البلدة بعاداتها الغريبة. كانت تحمل معها مجموعة كبيرة من الحقائب، وتخرج في الصّباح الباكر لتتجول في أحضان الطبيعة وبين شوارع البلدة المزدحمة، لتبحث عن "الذكريات" -كما كانت تسمّيها- في الروائع الصغيرة التي يتجاهلها الآخرون.

كانت تجمع التفاصيل الصغيرة الّتي تضم شيئًا من الجمال وتضعها في حقائبها. فمثلًا، ورقة الشّجر الصغيرة الواقعة على الأرض، بعروقها المعقّدة كخريطة روحها، تجد طريقها إلى إحدى حقائبها. الحصى الناعمة التي تهمس بذكريات الأنهار القديمة، تنضم بطريقةٍ ما إلى مجموعتها. ريشٌ، أصدافٌ، وحتى قطع من ورقٍ مهترئ — كل عنصر يحمل قصة، كل شيء له تاريخ، وأي ذكرى في انتظار الكشف عنها ستجدها في هذه الحقائب، الّتي أصبحت امتدادًا لذاتِها، ولوحة تُجسد فن العيش والغرق في التفاصيل.

كل مساء، كانت تعود إلى كوخها المتواضع وحقائبها مملوءة باكتشافات اليوم. تفرّغ محتوياتها على طاولتها الخشبية بهدوء، إذ أن كل قطعة توضع بحذرٍ وبدقّة متناهية، ثمّ ترتبها في صناديق مصنَّفة وفقًا للعواطف التي تثيرها، والفصول التي تمثّلها، والأحلام التي تُشعلها، والذّكرى الّتي تَشغلُها.

كان هناك صندوق لبتلات الزهور البريّة، الّتي تنسجم ألوانها بتناغم دقيق بين الوردي والبنفسجي، وآخر يحتوي على أصدافٍ وقطع زجاج ملون ناعِم الحواف بفعل البحر، وأيضًا صندوق آخر يحتوي على قطع خشب مجروف، متجعد ومرهق، وأهم صندوقٍ كان ذلك الّذي يضمُّ ذكريات أحبّائها: القلادة الّتي أعطتها إياها أُختها مرّة قبل أعوام، الزهرة الّتي أهداها إياها حبُّها الأوّل، أو الكتاب الذي ورثته عن والدها. كل شيء منهم كان محفوظ في مكان آمن لا تمسّه شائبة من تلفٍ أو غبارٍ.

وجد أصدقاؤها وجيرانها هوسها غريبًا، وأحيانًا مسليًا. كانوا يزورونها ويدهشون من تفانيها في البحث عن هذه الذكريات والمحافظة عليها، ويسألونها لماذا تقضي كل هذا الوقت في جمع وتنظيم أشياء تبدو تافهة. كانت تبتسم، وعيناها تعكسان عمقًا من الفهم يتجاوز الكلمات. "الجمال"، كانت تقول، "هو الخيط الذي ينسج ذكرياتنا في الحياة."

وبالرغم من طيبتها ورهافة روحها، إلا أنّها كانت تُجنُّ تمامًا إن فقدت ذكرى. كانت تنبش عن الذكرى كلّ الحيّ، وتبحث في كلّ الزوايا والحارات، ولا تكلّ أو تتعب إلا حين تستعيد ذكراها.

مرّة دخل مخرِّب إلى كوخها خلسةً، ونبش الصّناديق. لم يرد أن يسرق منها شيئًا، لكنّه الفضول لمعرفة ماذا تُخفي هذه الصناديق واستكشافها، أراد أن يرى المزيد من عالم هذه العجوز. فلمّا نثره كله وأربك ترتيبها، غادر وترك الكوخ في فوضى عارمة.

أتعبتها هذه الحادثة كثيرًا وسرقت شيئًا من اتّزانها. صارت تخاف ترك الكوخ فيدخل عليه مخرّبٌ آخر، وما عادت تستقبل أصدقاءها أو جيرانها حتّى لا يطمعُ من في قلبه مرضٌ بأن يؤذيها في ما تُحب. واصلت الليل بالنهار لشهورٍ عديدة في محاولةٍ لترتيب الفوضى الّتي افتعلها ذاك المخرّب. أثناء ذلك تلفت بعض الذكريات، وتكشّفت لها أخرى كانت قد غفلت عنها ونسيتها.

في يوم خريفي، بعدما أعياها التعب من الحراسة والترتيب، تلقت رسالة. كانت من صديق قديم لم تره منذ سنوات عديدة، صديقٍ لطالما كان يمقت التّمسك بالذّكريات. تحدّثت الرسالة عن التغيير، عن التخلي، وجمال الزّوال، عن البدايات الجديدة، وعن الجمال والراحة في الخفّة. عندما قرأَتها، شعرت بشيء يتأجج داخلها، هاجمَها بسؤال لطالما تجنَّبته.

—لماذا كانت تتشبث بهذه الذكريات بشدّة؟ ما الّذي كانت تخشى فقدانه؟

لأيام، تأمّلت في هذا السؤال، والرسالة ملقاة بجانب سريرها. بدأت ترى مجموعاتها بشكل مختلف، ليس كمجموعة من الذكريات، بل كعوائق لعالم لم تكتشفه بشكلٍ حقيقيٍّ بعد. ببطء، وغضبٍ مخبوء، بدأت تفتح صناديقها، واحدًا تلو الآخر، تاركة محتوياتها تنسكب في الفضاء، تستعيد الذكريات، وأيضًا تحررها.

حينها اكتشفت نوعًا جديدًا من الجمال—الجمال الذي لا يعتمد على الترتيبات المادية. صحيح أن الجمال في النظام كان مهمًا، لكنّ احتضان عدم اليقين في الحياة كان لا يقل أهمية أيضًا. لا تزال الصناديق موجودة، لكنها لم تعد تهيمن على مساحتها. بدلاً من ذلك، تعايشت مع انفتاح جديد، سيولة سمحت للحياة بالتدفق عبر منزلها دون عوائق. سمحت لنفسها أخيرًا أن تخوض التجربة. أصبحت الصناديق، التي كانت أوعية مادّية، ملاذًا للتجارب والمشاعر، ووجدت نفسها خفيفة، وحرّة!

في إحدى الأمسيات، تحت سماء مشتعلة بألوان الغروب، وقفت على حافة جرف مطل على اتساع المحيط. كان الهواء يحمل همسات البحر، ويعطرها برائحة الموج ووعد البدايات الجديدة. بإيماءة حاسمة، أطلقت آخر كنوزها المتجمعة في الريح، كل قطعة تلتقط ضوء الشمس الغاربة وتتناثر كآلاف النجوم الصغيرة. في تلك اللحظة، شعرت بقوة هائلة تتدفق عبرها، أخذت نفسًا عميقًا، وشعرت بثقل أعبائها السّابقة يرتفع كأنما حُمِل على أجنحة.

روحها، التي كانت مرتبطة بحقائبها وصناديقها، صارت الآن تحلق بحرية، تندفع في البحر كسفينةِ يحملها موجٌ من فوقهِ موج، موجهة برياح الحياةِ والتّجاربِ المتغيّرة باستمرار. لقد أصبحت رمزًا لاحتضان الجمال اللامتناهي للحياة. العالم امتد أمامها، شاسع وغير محدود، يدعوها لاستكشاف أسراره وكنوزه. ومع قلب مليء بالشجاعة، خطت إلى الأمام، غير آبهة لما يقوله الجميع من حولها، وغير مبالية بانحناء ظهرها، جاهزة للانطلاق في أعظم مغامرة على الإطلاق: رحلةُ الروح.

Comments

  1. Physical symbols can be reminders of Memories but not something to be immersed in. The need to keep them may be due to fear of forgetting them. Perhaps, like a chronic disease replacing the healthy tissue with unfunctional scars, we are doing the same by holding on the decayed, Rewriting the original memory into a false recreation with a bitter taste instead of its original's. Letting go is scary but if you can't then how you'll learn to fly? :) Memories are preserved, none are lost, if you care enough then you'll recall the old while making new true memories and having more fun and less pain, Miss Mela :) -- 'The Noble Snake'

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

أبوابٌ لها أبواب

تعال

الروائي في رأسي