الاستعارة الخامسة-خيّاط الرّوح



في يوم من الأيام، كان هنالك فتاةُ تبحث عن "خيّاطٍ" بارع ليصنع لها رداءً مميزًا، فسألت والدها إن كان يعرفُ شخصًا ماهرًا، فدلّها على صديقه الّذي افتتح دكّانًا صغيرًا قبل زمن طويلٍ. وصف والدها هذا الخياط ليس فقط بحرفيته، بل بمهارته في صناعة الملابس الّتي تتحدّث عن روح صاحبها، وكأنّه لا يخيط للبدن، بل للنفس.

بالفعل، توجهت إلى دكان الخيّاط العريق، الذي يقع في شارع مزدحم، في حي قديم، في إحدى أزقّة المدينة، وكأنه منارة صغيرة للتاريخ. اللافتة فوق الباب تلاشت حروفها، وبالكاد تكون مقروءة، لكنها تهمس بحكايات عن زمن كانت فيه الأشياء تُصنع لتدوم. عندما دفعت الباب، أصدر صوت صريرٍ مزعجٍ، ورنّ جرس مهترئ، معلنًا وصولها.

في الداخل، كان الهواء مشبعًا برائحة القماش والخشب العتيق، مزيج من شذى الحنين والتقاليد البالية الّتي ما عادت موجودة الآن يعشعش بالأجواء. رزم القماش كانت مكدسة بدقة على الرفوف، ألوانها الزاهية مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار. الجدران كانت مزينة بصور صفراء بفعل الزمن، تلتقط لحظات من الفخر والحرفية من زمن مضى. رأت طرحة عروسٍ معلّقة على الجدار، وكأنّها إثباتٌ على أنّ الفرح مرّةً زار المكان.

في الزاوية، كان الخيّاط منحنيًا على ماكينة خياطة تبدو قديمة مثل الدّكان نفسه. تتحرك يداه برشاقة متقنة، كل غرزة تشهد على عقود من التفاني والوفاء. وبجانبهِ كأسُ شايٍ وثلاثةُ أكوابِ قهوةٍ على الأقل. شعره، أبيض كالثلج، يؤطّر وجهًا محفورًا بخطوط من الابتسامات والأحزان العديدة.
عندما رفع رأسه، كانت عيناه تتألقان بدفء ينكر سنوات التعب. قدّمت نفسها، ذاكرةً اسم والدها. مرّ بريق من الاعتراف في نظرته، وهز رأسه ببطء، مع ابتسامة تتشكل عند زوايا شفتيه.

قال بصوت رقيق، مثل همهمة صديق قديم، "والدكِ رجلٌ طيبٌ، كان دائمًا يعتزّ بمظهره، ويفهمُ قيمة الأشياء المصنوعة يدويًا."

شكرته ثمّ وقفت أمامه بحزمٍ وقالت: "جئت لأطلب ثوبًا مختلفًا، ثوبًا يليق بما أشعر به في داخلي."

توقف الخياط عن العمل ونظر إليها بتمعن. "ما الذي تشعرين به حقًا يا ابنتي؟"

توقفت الكلمات في حلقها. فكرت في الصراعات الداخلية التي عاشت معها منذ فترة طويلة، في الانقسامات التي لا يفهمها أحد. قالت بصوت خافت: "أشعر وكأنني ممزقة بين شخصيات عديدة. أحياناً أكون قوية وواثقة، وأحيانًا أخرى ضائعة وضعيفة. أريد ثوبًا يجسد هذا التعقيد."

أخذ الخياط مقاس روحها وبدأ بالعمل مباشرةً، وبينما كان يخيط ردائها، كان يحدّثها عن ذكرياته مع والدها، وكلّ ذكرى عمرها على الأقل خمسون عامًا. شعرت باحساس غريب، اتصالٌ مختلفٌ مع الماضي. الأيدي التي صنعت ملابس لوالدها، الآن تصنع لها ردائها. كل قياس، كل تعديل، كان حلقة في سلسلة تمتد عبر السنين، تربطها بإرث من العناية والصداقة.

فجأةً، قطع العمّ الخيّاط حديثه، وضرب الطاولة بقوّةٍ بيديه، وبلهجةٍ جادّةٍ وحازمةٍ قال لها: "أنتِ كاذبة، وأنا لا أخيطُ رداءً للكاذبين!" عمّ الصمت في المكان، وبدأت تشعر بالتوتر، لم تعرف بماذا تجيب، هي لا تتذكّر انها كذبت بشيء، هي لا تجيد الكذب أصلًا. فكسر هو الصّمت بضحكةٍ مليئةٍ بالدفء، ثم قال بحنوٍّ: "تكذبين، وتخفين جزءًا من روحك، وهذا يُفسد القياس، سيأتي الرداء ضيّقًا وستفسدين سمعتي في كلّ أرجاء المعمورة، وسيقول عنّي الناس كبرتُ، وأنّني ما عدت أجيد الحياكة، أتقبلين بذلك؟ " 

شعرَت الفتاةُ بالراحةِ، وابتسمت ابتسامةً كبيرة وقالت"أخاف إظهار روحي كلّها فيصيبني أذىً" .

ردّ عليها العجوز الخياط قائلًا:"يا ابنتي، الروح التي تخشى الانكشاف تظل أسيرة الظلال. الكذب الذي أخشاه ليس بالكلمات، بل بالصمت على حقيقتك، بإخفاء ما يجب أن يُرى. الأقمشة التي تخيطينها حول روحك لتُبقيها آمنة هي ذاتها التي تخنقك وتقيّدكِ، إن الروح لو أبقيتها مطوية ومخفية، ستبقى مجعّدة ولن تظهر جمالها الحقيقي. العالم قد يجرح، نعم، لكن الجرح هو ثمن الصدق مع الذات. إن كنتِ تظنين أن ستر روحك يحميك، فأنتِ تخطئين. الرداء الذي أُعدّه لكِ لن يحتمل نصف الروح، ولا يُخاط إلا لمن يجرؤ على الظهور بكل ما هو عليه. هل ستختارين أن تكوني كاملةً، أم ستبقين مُجزّأة خلف قماشٍ من الخوف؟"

صمتت الفتاة، وتابع الخياط حياكة الثوب، وحرِص على جعل مقاسه أكبر بكثير مما رأى، أو بالأحرى، أكبر مما أظهرت له الفتاة من روحها، لكنه حرِص على أن يتركَ خيطًا منسلًّا من الثوب، وكأنّه خيط الخوف في قماشٍ الطمأنينة، ولمسه الشّك في روح اليقين. 

استلمت الفتاةُ ثوبها، ابتسمت ببراءةٍ وفرحٍ طفوليّ وهي تشكر العم الخياط، وشعرت بشيء يشبه التحرر يتسلل إلى أعماقها.

عند خروجها، شعرت بأنها ترغب في التقاط صورة في ذهنها لهذا العم في دكّانه الصغير. كل شيء حوله كان يبدو كلوحة فنّية، معتّقة بالذكريات والدّفء. هذا العم الذي أعطاها شيئًا أكبر من مجرد رداء. شعرت بأنها قد حملت معها درسًا جديدًا في الفلسفة والحياة، تلك الزيارة كانت تذكيرًا لها بأن لا تخف، وأن العالم ليس كما تظنّ وتخشاه، وأننا نحن جزء من نسيجٍ أكبر يمتد عبر الزمن، يرتبط بكل أولئك الذين سبقونا، لذلك لا يجب علينا أن نقلق كثيرًا إن حصل شقُّ ما في مكان من نسيجنا، فإنّ هذا الشقّ لا بُدّ سيجبر. 

وحتّى لو اهترأ رداء روحنا، فبعض الأشياء، رغم أنها بالية ومتهالكة، لا تضيع أبدًا. إنها تعيش في أيدي من يتذكّر، في القصص المكتوبة بخيوط الحب والصّدق، كطرحةِ العروس المصفرة. لكن أحيانًا علينا أن نتوقّف للحظة، ونتأمّل الحياة بهدوء.

في هذا الركن البعيد من الزمان، حيث تتلاقى خيوط الماضي والحاضر، وجدت الفتاة نفسها أمام حكاية صامتة، يرويها الخياط بإبرته. تساءَلت: هل نحن أيضًا أقمشة تتشكل على يد الزّمن؟ في هذا الدكان، كأنه مكانٌ مصغّر للكون، حتى أبهى الأثواب، يحمل في طياته بداية ونهاية، حياة وموت، وقصص طويلة جدًا، فهل نحن أيضًا جزء من هذا النسيج العظيم؟

Comments

Popular posts from this blog

أبوابٌ لها أبواب

تعال

الروائي في رأسي