لماذا؟
منذ صغري، نشأت وأنا دائمًا تلك الفتاة التي تسأل "لماذا". لم يكن الأمر مجرّد عادة عابرة؛ بل كانت قوة تدفعني، فضولٌ لا أستطيعُ إيقافه. أذكرُ وأنا جالسةٌ في الفصلِ، أستمع إلى المعلمة تشرح شيئًا، كان ذهني يتجول فورًا إلى ما هو أبعد مما يُقال. إذا تعلمنا عن مبدأعلمي، لم أكن أريد فقط أن أعرف كيف يعمل، بل أردت أن أعرف لماذا هو كذلك وماذا سيحدث إذا كانت الأمور مختلفة عمّا هي عليه. عندما كنت أطرح أسئلتي على والديّ أو معلماتي، كان لديهم في بعض الأحيان إجابات، ولكن في كثير من المرّات، لم يكن لديهم أي شيء ليشفي عطشي للمعرفة. كانوا يقولون: "هكذا هو الأمر"، أو "سوف تفهمين عندما تكبُرين"، لكن تلك الردود لم تكن ترضيني، لم أستطع قبول الأمور كما هي ببساطة.
أعتقد أن هذه هي النقطة التي بدأ فيها شعوري بأنني مختلفة. بينما كان الأطفال الآخرون يرضون بما يُقال لهم، كنت أنا أبحث في العمق، أبحث عن تفسيرات لم يكن أحد آخر مهتمًا بها. جعلني ذلك أشعر أحيانًا بأنني دائمًا على حافة فهم شيء لا يهتم به الآخرون. في بعض الأحيان، كنت أزعج الناس بأسئلتي التي لا تنتهي، ولكن لم أكن أمانع. بالنسبة لي، كان كل "لماذا" خيطًا يمكنني تتبعه، يقربني من شيء أكثر معنى.
كانت هناك أيام شعرت فيها بالإرهاق أيضًا. كنت أنام وأنا أستعيد المحادثات أو الأشياء الّتي تعلمتها، أتساءل إذا كنت قد فوّتت شيئًا أوإذا كان العالم فعلاً يعمل كما يقول الناس. من الغريب أنني أعتقد أن هذا الاستجواب المستمر شكّل ليس فقط الطريقة التي أرى بها العالم، ولكن أيضًا كيف أرى نفسي. لم أقبل أبداً الإجابات البسيطة، وبطريقة ما، جعلني ذلك أشكك في معتقداتي وأفكاري أيضًا. لم يكن الأمر يتعلق فقط بفهم كيفية عمل الأشياء من الخارج؛ بل أصبح يتعلق بفهم نفسي —لماذا شعرت بالطريقة التي شعرت بها؟ لماذا اتخذت قرارات معينة، لماذا تتكشف الحياة أمامنا بهذه الطريقة؟
وربما هذا ما يحرّكني اليوم. حتى كراشدة، لم أفقد أبدًا ذلك الإحساس بالدّهشة، ذلك الشعور بأن العالم هو لُغز له قطع لا نهاية لاكتشافها. كل "لماذا" قادتني إلى مكان ما —أحيانًا إلى المعرفة، وأحيانًا إلى اكتشاف الذات، ومرّات كثيرة إلى الضياع في تساؤلات أكبر. ولكن دائمًا إلى ارتباط أعمق بالعالم. لم يعد الأمر مجرّد عادة؛ بل أصبح جزءًا من هويتي. سؤال "لماذا" هو ما يجعل الحياة غنية، مليئة بالإمكانات، ودائمة التفكك إلى أجزاء أصغر لا نهائية.
ثم كانت هناك لحظات الحزن التي تسللت عندما أدركت أن بعض الأسئلة لا تملك إجابات على الإطلاق —أو على الأقل، لا توجد إجابات تجعل ما سألتُ منطقيًّا. من المُحزن أن ليس كل شيء في الحياة يمكن شرحه. لماذا يؤذينا الناس؟ لماذا يغيّر الوقت الأشياء التي كنا نظن أنها ستدوم إلى الأبد؟ لماذا يبدو العالم أحيانًا مليئًا بالجمال والألم في آن واحد؟ تلك الأسئلة، التي تمس شيئًا أعمق، كانت الأصعب في العيش معها.
من الغريب، أن اسئلة "لماذا" غير المجابة هي الّتي غيّرتني أكثر. جعلتني أشكك في العالم، في نفسي أيضًا. لماذا شعرت ببعض الأشياء بعمق شديد؟ لماذا كنت أعاني من قبول الأمور التي يمكن للآخرين تجاهلها بسهولة؟ هناك نوع من الحزن في ذلك —معرفة أن ليس كل لغز يمكن حله، وأنه ربما ليست كل الألغاز مخصصة ليتم حلها. لكن ذلك الحزن، بطريقة ما، أصبح مألوفًا. إنه رفيق هادئ ومستمر للفضول الذي لا يزال يدفعني، ويجعلني أقوى لمواجهة الحياة بكل شراسة. حتى الآن، أطرح أسئلة ليس لها إجابات سهلة، وأحيانًا يكون الصمت الذي يتبع ذلك أثقل مما كان عليه من قبل.
لكن ربما لا بأس في ذلك. لا تزال "لماذا" مهمة، حتى عندما تقود إلى لا شيء. تذكرني بأن العالم ليس بسيطًا كما نريد أن يكون، وأنّ الحياة مليئة بالتناقضات والأسئلة غير المجابة. وفي تلك الحالة من عدم اليقين، هناك شيء مريح بشكل غريب. الأمر لا يتعلق بالعثور على جميع الإجابات بعد الآن — بل يتعلق بمعرفة أن الأسئلة نفسها هي جزء مهم يجعل الحياة هشّة وجميلة في ذات الوقت.
إذًا أخبرني أنت الآن، لماذا؟
Comments
Post a Comment