البحثُ عن الجمال
بدأت حكايةُ الحقل الكبيرِ بزهرة توليب واحدة. خرجت بهدوء من رحمِ الأرض، وجودها كان متواضعًا، يكاد يكون غير مرئي في فضاءٍ واسعٍ يخلو من الحياة. لم تكن هناك عجلة في تفتّحها، ولا حاجة لها لأن تُلفت الأنظار. وقفت التوليب وحيدة، لكنها لم تشعر بالنقص. كانت تدرك شيئًا نغفله نحن البشر في ضجيج حياتنا —أن الجمال الحقيقي لا يكمن في الكثرة، بل في القوّة الصامتة للوجود بثقة وتفرُّد. في وحدتها، وجدت زهرةُ التوليب غايتها؛ وقفت شامخة وامتدت جذورها عميقًا في قلبِ الأرض، بينما كانت تتطلع نحو الشمس، ليس لأجل عيون الآخرين، بل للضوء الذي تبحث عنه بفطرة نقية.
ثم، في ذلك السكون، بدأ التغيير. من تربة داكنة، ظهرت زهرة أخرى. لم تكن عجولة أيضًا، بل ظهرت بثبات. واحدة تلو الأخرى، نمت الزهور، كل زهرة تخرج ببطء، مستجيبة لنداء الأرض. لم يمتلئ الحقلُ فجأةً؛ كان تحوله تدريجيًا، كأنه استيقاظ صامت من نومٍ طويل. لم يكن مشهدًا مذهلاً، بل كان حوارًا صامتًا بين الأرض والسماء، بين التوليب والرياح، وبين الطبيعة والإنسان. إذ أنّ النّمو لا يُقاس بالسرعة أو العدد، بل بتناسق اللحظات وسكينة الحضور، كل زهرة كانت فريدة، لكنها في الوقت ذاته كانت جزءًا من كلٍ أكبر. كل زهرة ظهرت في وقتها المناسب، وفي لحظتها الخاصّة، كانت كاملة.
نحن البشر نميل إلى النظر إلى الحقول المليئة بالأزهار، معتقدين أن الجمال يكمن في كثرتها. لكن، ماذا لو كان هذا الاعتقاد خاطئًا؟ ماذا لو كان الجمال الحقيقي لا يكمن في كثرة الزهور، بل في القصة التي تُروى عبر كل زهرة بمفردها؟ إننا نبحث عن الجمال، ولكن ما نبحث عنه حقًا هو انعكاس لأرواحنا. نحن ننجذب إلى تلك الزهور لأنها تذكرنا بشيء فقدناه في ضجيج حياتنا اليومية، نحنُ نحبُّ ما يسكن فينا. —وعليه، فإنّ الجمال الحقيقي صبورٌ ولا يحتاج للفت الانتباه. إنه يتفتح ببطء وهدوء، ولا يطلب سوى أن نمنحه الوقت الكافي لنراه.
لم تنمو زهور التوليب لتنال إعجاب أحد، لقد أزهرت لأنها كانت تُنفذ إرادة الطبيعة، لأنها في صميمها وجدت غايتها. وهذا هو العمق الذي نغفله. التوليب الأولى، التي وقفت وحيدة في الحقل، لم تكن ناقصة بغياب الزهور الأخرى. لم تكن تنتظر رفيقات ليكتمل جمالها، ولم تكن تبحث عن كثرة أو تأكيد. لقد كانت كاملة منذ اللحظة الأولى، الحقل المليء بالزهور لم يُضف جمالًا لها، بل كشف عن الجمال الكامن الذي كان موجودًا بالفعل.
البحث عن الجمال لا يتعلق بامتلاك المزيد أو السعي إلى الكثرة، بل في إدراك ما هو حاضر أمامنا منذ البداية. في الحياة، نعتقد أن الجمال يكمن في ما يأتي لاحقًا، في المستقبل، بعيدًا عن متناولنا الحالي. لكن الجمال الذي نبحث عنه ليس شيئًا نركض خلفه، بل هو حاضر في كل لحظة نعيشها، في كل زهرة تتفتح ببطء، في كل نفس نتنفسه.
يبدو أن أجمل لحظات الحياة ليست تلك الّتي نطاردها، بل تلك التي نسمح لأنفسنا بأن نتوقّف للحظة لنراها. ويبدو أنّ حقل التوليب ليس وجهة نذهب إليها حين نكون عطشى للجمال، بل هو انعكاس للرحلة كلّها. لقد بدأ كل شي بزهرة توليب واحدة، تقف بشموخٍ بمفردها، لكنّها كانت تحمل في قلبها وعد الحقل بأكمله.
-لهذا أخبرتُك سابقًا، الجمالُ فيكَ أنت، وفي عينيك.
Comments
Post a Comment