الاستعارة السادسة-الشّوكولاتة الدّاكنة
في أرض بعيدة، يُطوى فيها الزّمن على نفسه، وتتساقط أوراق أشجارها مثل صفحات كتاب قديم، كان هنالك شجرة، لم تكن كأيّ شجرةٍ أخرى. كانت جذورها تغوص عميقًا في الأرض، تتشابك مع ذكريات منسية وأسرارٍ لم تُروَ. وأغصانها تمتد عاليًا إلى السماوات، وكأنها تبحث عن إجاباتٍ لأسئلةٍ ضاعت في الريح. لكن أغرب ما فيها كان ثمارها—قرون تحتوي بداخلها على جوهرِ المرِّ والحلو: الكاكاو.
يقال في أسطورة إغريقيّة أن هذه الشجرة كانت موجودة منذ بداية الزّمن، وأن الآلهة همست في أوراقها، حتّى تُعلّم الكائنات الأولى مفارقة مهمّة من مفارقات الحياة—أن في المرّ يكمن الحلو، وفي الحلو يكمن المرّ.
كان سكّان القرية الّتي نشأت حول الشجرة، يقدمون لها القرابين دائمًا، رغم أن الشجرة لم تكن تحتاج لأي منها، وفي المقابل، كانوا يحصدون ثمار الكاكاو منها. من هذه القرون، صنعوا شرابًا غنيًا داكنًا ودافئًا، أطلقوا عليه اسم "شوكولاة".
كان شيوخ القرية يجمعون الناس، ليتناولوا معًا هذا المشروب، ثم يبدأون بالحديث عن ازدواجيات الحياة. "هذا الشراب"، كانوا يقولون، "هو قصّة الوجود. المرارة التي تتذوقها في البداية هي المعاناة والنّضال الذي نواجهه جميعًا، لكن انتظر، انتظر قليلًا، وستظهر الحلاوة، لأنه بعد كل نضال، هناك فرحة خفية، صابرة كصبر الشمس طوال الليل لتشرق."
ومع مرور الزّمن، انتقلت هذه الحكمة من جيلٍ إلى جيلٍ، وترحّلَت عبر البحار، إلى أراضٍ بعيدة، فاكتشف الناس هذا المشروب العجيب المليء بالمرارة والحلاوة. لكنهم لم يكونوا راضين عن المرارة. فسعوا إلى إزالتها بكلّ الطّرق، مضيفين السكر والحليب والعسل، حتى لم يتبق سوى الحلاوة.
وهكذا وُلِد شكل جديد من "الشوكولاة"—شكل نسي النّاس أصوله المُرّة.
أولئك الذين تذوقوا هذا الإبداع الجديد احتفلوا بمتعته السّهلة. لم يكن هناك حاجة للانتظار، ولا حاجة لتحمّل المرارة. كان بسيطًا وممتعًا، والأهم، بدون نضال. انتشرت الشوكولاتة في أرجاء العالم، وفقدت تاريخ قصّتها القديمة العميقة. نسي النّاس الشّجرة، والقرية، والشيوخ الذين تحدّثوا عن توازن الحياة.
لكن القرية ظلت قائمة ومتمسّكة في طريقتها بتحضير "الشوكولاة"، وفي يوم من الأيام، وجد مسافرٌ مُتعب من سعي العالم اللانهائي نحو المتعة نفسه تحت أغصان الشجرة القديمة، جلس مع القرويين، وشرب الشوكولاة المرّة الأصيلة.
حينما استقرّ الطعم على لسانه، شعر بأن ثقل رحلته يخفُّ. في البداية، أعادت المرارة إليه جميع الخسائر، والخيبات، ولحظات الظلام. ولكن بعدها، أزهرت الحلاوة، ببطئ، لكن بيقين، مثلما يظهر شعاع الشّمس الأوّل من الغسق. في تلك الحلاوة، فهم أنّ أعمق الأفراح في الحياة ليست تلك التي تأتي بسرعة، بل تلك التي تظهر من خلال الصبر، ومن خلال التحمل، ومن خلال فهم جَمال المُر.
بقي المسافر في القرية، مختارًا الحكمة الهادئة للشوكولاة على المتع العابرة للعالم. ومع مرور الفصول، راقب الآخرين يأتون ويذهبون، يبحثون عن إجابات في لحظات سريعة لكنهم يغادرون قبل أن يتذوقوا الحلاوة الأعمق المخبّأة تحت المرارة.
وهكذا أصبح المسافر راويًا، ينقل حكمة الشّجرة إلى من يستمع. "الحياة"، كان يقول، "شراب يجب أن تشربه ببطء، لا تتعجل في مرارته، فهي تعلمك الصمود، لا تتوق فقط لحلاوته، فهي ستتركك فارغًا. ابحث عن التّوازن، وفي ذلك التّوازن، لن تجد سعادة عابرة، بل سلامًا دائمًا."
استمر العالم الخارجي في مطاردة الحلاوة السهلة، لكن المسافر لم يعد ينتمي إليه. لقد وجد شيئًا أغنى، وأعمق. وعلى الرغم من أن القليلين سعوا إلى طريق الصبر، فإن من فعلوا وجدوا أنفسهم راضيين، وقلوبهم لم تعد مضطربة بل ثابتة، مثل الشجرة نفسها، متجذرة في الحكمة الهادئة للمر والحلو.
لمن يُدرك، فالحياة ليست خيارًا بين الفرح والحزن؛ بل التناغم الذي ينشأ من امتزاج كليهما. في ذلك التّناغم، نجد القوة للتحمل، والشجاعة للنمو، والحكمة لمعرفة أن أعمق حلاوة لا تكمن في تجنّب المر، بل في الاستمتاع بلذعته. فهل أنت مستعد لتتذوّق هذه اللذعة؟
—قُل لي، كيف تحبُّ "الشوكولاة" ؟
Comments
Post a Comment