الخلود
إنها فكرة غريبة، أليس كذلك؟ أن يتحدّى كائنٌ ما الموت، ليس من خلال السحر أو الأساطير البعيدة، بل بطريقة صامتة وهادئة لا يُلاحظها أحد. —قنديل البحر الخالد، أو كما يُسمى علميًا (Turritopsis dohrnii)، اكتشف طريقًا للهروب من قبضة الزّمن، متجنبًا النّهاية الحتمية التي نواجهها جميعًا. لا يقاوم الزمن بضجيج وصخب، بل يتجاوزه بسكون، مستديرًا إلى الوراء ليعود إلى شبابه، وكأن الحياة ليست خطًا مستقيمًا، بل دائرة غير مُنتهية.
جوهر هذا التمرّد على الزمن هو عملية تُدعى التحول الخلوي أو التمايز المتبادل (Transdifferentiation). هذه ليست مجرد عملية إصلاح أو تجدد، بل هي فعل من العصِيان، تحول عميق يعيد تعريف جوهر الحياة نفسها. تحدث هذه العملية عندما تقرر خلية ناضجة تمامًا التخلّي عن هويتها، وتتحول إلى شيء جديد كلّيًا، وكأنها تثور ضد قدرها. إنها ليست محاولة لشفاء الخليّة؛ إنها أعمق من ذلك. إنها إعادة كتابة للذات، تجردٌ كامل من ما كان لتصبح شيئًا جديدًا.
بالنسبة لـقنديل البحر الخالد، هذه العملية هي مفتاح خلوده. عندما يواجه خطرًا أو ضغوطًا أو حتى يمرّ بعمليّة الشيخوخة الطبيعية، يقوم بتفعيل هذه العملية. الخلايا الناضجة تعود إلى حالتها الأولية، وتتحول مرّة أخرى إلى مرحلة اليرقة، البداية الأولى لحياته. تخيل لو أننا، عندما نواجه الشيخوخة أو الإصابات، نستطيع أن نعيد الزمن إلى الوراء؟ ليس فقط أن نبدو أصغر من حيث المظهر، بل من حيث الجوهر. بالنسبة لقنديل البحر، هذه ليس مجرد استعارة؛ إنها حقيقة. يعيد الزمن نفسه، ليبدأ من جديد.
هناك شيء شعري عميق في هذا. القنديل لا يهرب من الموت عن طريق مواجهته أو التغلّب عليه، بل عن طريق تجاوزه. إنه يتجاوز الزمن، وبدلًا من أن يمضي قدمًا، يعود إلى البداية. لكن بأي ثمن؟ ما هي الحياة بدون نهاية؟ إذا لم نواجه الموت، هل ستظل اللحظات التي نحتفي بها تحمل نفس الأهمية؟ هل سيظل الحب مثلًا بنفس القيمة إذا علمنا أنه سيستمر للأبد؟
منذ القدم، راود الإنسان حلم الخلود، وحاول العلماء والفلاسفة إيجاد إكسير الحياة الذي يمنحه الشباب الدائم والصحة الأبديّة. وقد ألهمتنا أساطير الشعوب القديمة بقصص عن كائنات خالدة تحيا إلى الأبد، مثل الفينيق الذي يولد من رماده، —الفينيق، ذلك الطائر الأسطوري الذي ينبعث من رماده بعد الاحتراق والموت، ولكن الفارق بين الفينيق والقنديل يكمن في المعنى الرمزي لكليهما. الفينيق يعبّر عن فكرة القوة والإرادة في مواجهة المصير المحتوم، يحترق ثم يعود أكثر قوّة وجمالًا. بينما قنديل البحر يمثل فكرة الخلود الهادئ؛ حيث يعيد تشكيل نفسه دون صخب أو ألم ظاهر. إنها فلسفة الحياة في أبسط صورها: العودة إلى البدايات، إلى بذرةِ كلّ شيء، لتستمر الحياة في دورة أبدية.
—طيّب، ماذا عن الإنسان؟ هل يعود؟
يقودوني هذا التساؤل إلى الحديث عن اسم الله تعالى "المُعيد" وهو الّذي "يعيد" الخلق إلى الحياةِ بعد موتهم ليجازيهم على أعمالهم، وهو المُوجد لما كان موجودًا من قبل ثم فَني، وهو القادر على إعادة الشيء إلى أصله، وردّ الشعور لصاحبه، وإحياء الأمل بعد انطفائه، وقلبِ الخوف إلى طمأنينة، الله المُعيد، هو الّذي يُرجعنا إلى طُرق الخير، ويعيدُنا إليه سبحانه كلّما ابتعدنا عنه.
بنظري الجميع يعود، كل شيء يعود، إنّ الحياة كلّها تدور في دوائر، وتسير بتقدير إلهيّ عجيبٍ ومُبهر لو أدركت ذلك.
وأنت، هل ستعود كالفينيق أم كالقنديل؟
Comments
Post a Comment