دالي والحب؟ لمَ لا

سلفادور دالي، هو أحد أعظم الفنانين السرياليين في القرن العشرين، كان عبقريًا لا يعترف بالحدود ولا بالقيود. وُلِد في إسبانيا عام 1904، وتجلّت موهبته المبكّرة في الفن حيث أظهر قدرة مدهشة على رسم العوالم الغريبة والمشوّهة التي تعكس أحلامه وهواجسه. دالي لم يكن مجرّد رسّام، بل كان مغامرًا فكريًا وروحيًا، جعل من كل لوحة مزيجًا من العبث والعبقرية. كانت أعماله تتجاوز ما هو مرئي لتغوص في أعماق العقل الباطن، مستوحاة من علم النفس والفلسفة وعالم الأحلام.

غالا، أو إيلينا إيفانوفا دياكونوفا، كانت امرأة من نوع آخر. روسية الأصل، ولدت عام 1894، وارتبطت بحياة دالي في مرحلة من حياتها بعد زواج سابق. كانت تكبره بعشرة أعوام، ولكن الفرق في العمر لم يكن حاجزًا بينهما. غالا كانت ملهمة، ساحرة، قوية الإرادة، وصاحبة تأثير قوي على الناس. وقد كان لها تأثير مُضاعف على دالي، إذ أنّها لم تكن مجرّد زوجة أو حبيبة، بل كانت شخصًا يفهم الفن والحياة كما يفهمهما هو، بل وربما بشكل أعمق.

في عام 1929، كان اللقاء الّذي سيغير حياة دالي للأبد. حين التقى بغالا للمرة الأولى، كان شابًا غريب الأطوار لم يكن قد وجد نفسه بالكامل بعد. لكن شيئًا في عيني غالا جذب دالي بطريقة لا تقاوم، ووجد فيهما ضالّته. كانت أكبر منه، أكثر حكمة وخبرة، ووجد فيها ما يحتاجه ليتجاوز كل حواجزه النفسية والإبداعية. وقع في حبها من النظرة الأولى، وانطلقت شرارة علاقةٍ لم يكن أحد يتوقع مدى جنونها أو تأثيرها.

حبهما كان خارجًا عن المألوف. غالا لم تكن فقط حبيبته أو شريكة حياته، بل كانت ملهمته، مركز كل لوحة يرسمها. حتّى أن دالي بدأ يوقّع لوحاته باسمه واسمها معًا، "غالا سالفادور دالي" وكأن وجودهما قد اندمج تمامًا. قال لها ذات مرة: "أرسم لوحاتي لا بالألوان، بل بدمكِ." لم يكن هذا مجرد تعبير شعري، بل كان وصفًا حقيقيًا لما يعنيه حب غالا بالنسبة لدالي. كانت هي التي تشعل شرارة إبداعه، تلهمه الأفكار والمشاهد الّتي حوّلها إلى أعمال فنية خالدة.

لكن، كما هو الحال مع الكثير من الحب العظيم، كان هناك جانب مظلم. دالي، الذي كان يعاني من نوبات غضب جامحة، ضرَب غالا في إحدى المرّات بشدة بسبب خيانتها له، لدرجة أنّه كسر لها ضلعين! ولم يتوقف عن ضربها إلّا حين حقنته بجرعة ذائدة من "الڤاليوم"، وعوَّدته على إِدمان تلك المهدئات ما نَخَرَ دماغه وعطَّل جهازه العصبي، ومع الوقت، تدهورت حالته النّفسية والصّحية، لكن حبه لغالا لم يتزعزع.

عندما توفيت غالا عام 1982، انهار دالي تمامًا. توقف عن الأكل، ودخل في نوبات من البكاء والصراخ، وحاول كثيرًا أن يهشّم وجهه. فقدانها كان بمثابة فقدان كل شيء بالنسبة له. كان يعذب نفسه جسديًا وكأنه يحاول تدمير ذاته بعدما فقد ملهمته ومحور حياته.

إنّ جنون الحبِّ عند الفنانين ليس مثله عند البشر العاديين، فهو لا يحدث نتيجة للعاطفة فحسب، بل هو انعكاس لطريقة تفكيرهم وتفاعلهم مع العالم. إنّهم يعبّرون عن الحب كما يعبّرون عن الفن؛ بانغماس كامل في مشاعرهم وعواطفهم الحادّة الّتي تنصهر في لوحاتهم، إنّ نوع كهذا من الحب كفيلٌ بأن يحوّل الفنّان إلى مُتحفٍ حيٍّ من الجمال. فالفن هو الحب عندما يُجسّد، والحب هو الفن عندما يُعاش.

دالي مثلًا، بالرغم من ألمه، ترك لنا إرثًا فنيًا خالدًا، وهو لوحة "جالاتيا ذات الأفلاك". هذه اللوحة ليست مجرد عمل فني؛ إنها قصيدة في الحب الخالد. رسم وجه غالا وكأنه مشظى إلى ذرات عالقة في الفضاء، تدور في مدارها الخاص كما تدور الكواكب حول مركزها. غالا، الأنثى الأبدية، تبدو في اللوحة ككيان أسطوري، محاطة بجاذبية كونية لا تقاوم. استطاع دالي أن يجسد هذا الحب في شكل بصري معقد، مدهش، لدرجة أن تفاصيله تبدو أقرب إلى الانشطار النووي، حيث لم يكن الرسم مجرد ألوان على قماش، بل كان تفكيكًا للذرة ذاتها، وكأن حبه لها قد وصل إلى مستوى علمي وروحي يفوق الفهم.

قال لي صديقي ذات يوم أنّ أسمى هدية يمكن أن يقدمها شخص لآخر هي أن يهبه جزءًا من ذاكرته، ليحمله فيها إلى الأبد. ففي معترك الحُب والفن، أن ترسم شخصًا يعني أن تحوّله إلى رمزٍ خالد، مسطور بالفرشاة واللون، نقشًا لا يمّحي من ذاكرة اللوحة ولا من أعماق النّفس. أن ترسم من تحب، يعني أن تحفظ تفاصيل وجهه كما تحفظ سرًا مكتومًا، أن تغوص في ظلال عينيه لتقرأ قصص الألم والفرح المستترة بين ثنايا الجلد. أن تحفظ ملامحه عن ظهر قلب، وتدرس بدقّةٍ تلك الشامات المتناثرة على بشرته وكأنها نجومٌ في سماء ليل هادئ.

في كلّ لمسة فرشاة، يُسطّر الفنان سيرة غير مرئية، يخلّد بها ضحكة لن تذوي، ويضفي على الابتسامة بريقًا أبديًا يظل مشرقًا في اللوحة مهما امتدت الأيام، ولهذا، أرسُمكَ شمسًا؛ حتّى لا تغرُب.

الفن يا صديقي كما الحب، يذهب بعيدًا وعميقًا في الروح. كلاهما يُسبر أغوار الوجود ليكشف عن معانٍ تتجاوز الوصف، إذ لا يكتفي الفن بتقديم صورة مادية، ولا يقتصر الحب على المشاعر العابرة. بل هما ضرب من الانغماس في جوهر الآخر، وفهم الذات من خلال هذا الانغماس. الفن مثل الحب، يكشف الجمال الخفي، يعمّق الرؤية، ويحوّل المشاعر والأفكار إلى تجارب حسية ووجدانية. إنهما مغامرة نحو المجهول، حيث يتلاقى العقل والروح، ليخلّقا عالمًا يتجاوز الزمان والمكان.

لهذا، الفنان الحقيقي لا يرسم إلا من أحبّه بشغف حقيقي، ولا يهدي فنه إلا لمن يتناغمون مع روحه، ويقدّرون فنّهم كما يقدّسونه هم. لأن الرسم بالنسبة له ليس مجرد ترجمة لشكل مادي، بل هو سرد لشخصية وذكرى ومشاعر فلسفية معقّدة.

"إنه بدمائك يا غالا أرسم لوحاتي" قال دالي؛ فهل يا تُرى، يجب على المرئ أن يكون فنّانًا ليجرّب هذا العُمق الشعوري، أم يمكننا جميعًا أن نكون فنّانين في قصة حبّنا الخاصة؟



Comments

Popular posts from this blog

أبوابٌ لها أبواب

تعال

الروائي في رأسي