أبوابٌ لها أبواب


مرّ وقتٌ طويل على آخر مرّة أمسكت فيها القلم وشرعتُ بالكتابة، لكنّي اليوم نفضت الغبار عن أوراقي وكلماتي وجئت أكشفُ لكم شيئًا متعبًا وحزينًا على غير العادة.

في طفولتي، كانت العودة إلى المنزل دائمًا فعلًا بسيطًا ومريحًا. كنت أسير بجانب والديّ، يدي الصغيرة تمسك بأيديهما، متسابقةً مع إخوتي بحماسٍ للدخول إلى البيت. ولكن عندما نصل إلى الباب، كان هناك شيء غريزي يدفعني للتراجع خطوة إلى الوراء، والوقوف بصمتٍ، لأترك لوالديّ الفرصة لفتح الباب أولًا. كانا يخرجان المفاتيح من جيوبهما، أصابعهما تلامس المعدن البارد للمفاتيح، وبسلاسةٍ متمرّسةٍ، كانا يفتحان الباب، يتركوننا ندخل إلى المنزل، ثم يغلقان الباب خلفنا. لم أفكر كثيرًا في ذلك حينها. كان الأمر مجرّد جزءٍ من الحياة اليوميّة، ولكن مع مرور الوقت، بدأ المعنى وراء هذا الفعل الصغير، الذي لم أكن ألاحظه، يتكشّف لي ويطفو على سطح أفكاري.

إن هناك فنًا لفتح الأبواب، وهو شيء لم أفهمه تمامًا إلا عندما كبرت. في طفولتي، كان الباب دائمًا مدخلًا للدفء، للأمان، للمنزل، ولكن مع تقدّم العمر، أصبح نفس الباب شيئًا أثقل بكثير—شيئًا رمزيًا. لم يكن الأمر مجرد فتح باب للدخول إلى البيت؛ بل كان يتعلق بفتح العديد من الأبواب الّتي تغلقها في وجهي الأيام، وتفرض الحياة عليّ فتحها لاحقًا. أبوابٌ إلى طرقٍ جديدة، إلى عبء حمل مشاعري، وثقل القرارات الّتي تُلازمني، وتعب التّعامل مع تعقيدات العالم، وأخرى تخفي خلفها فراغًا واسعًا خلّفهُ غياب مَن اُحِب. وفي نهاية اليوم، عندما أقف أمام باب المنزل، أجد نفسي أتوقُ لمن يمسك بالمفتاح من يدي، ويفتح الباب عنّي.

لقد أصبح الفعل البسيط للفِّ المفتاح داخل قفل الباب، انعكاسًا لكل شيء واجهته، كل باب فتحته كان مدخلًا لتجربة مختلفة، درسٍ جديدٍ، وقاسٍ في كثيرٍ من الأحيان، لحظة انكسارٍ خافتة، ومؤلمة في ذات الوقت. ومع كل مرة أدير فيها المفتاح، أترك جزءًا صغيرًا من نفسي—إلى أن تأتي الأيام التي أشعر فيها وكأنني تركت الكثير، إذ أنّ بعض الأبواب، لا تساعد المفاتيح في فتحها؛ بعضها يجب أن يُكسر، أو أن تتسلّقه بشجاعةٍ لتخطّيه، هذه الأبواب احتاجَ عبورها جزءًا كبيرًا من روحي. أخرى انغلقت على أصابعي وآلمت يدي، حتّى صرتُ بعد يومٍ طويلٍ، أقف أمام باب منزلي، أتنحّى جانبًا، لربما يأتي من يسبقني ويفتحُ لي، وأدرك حينها أن الأمر لا يتعلق بالعجز أو الكسل أو قلّةِ الصّبر— لا أنسى المرّة الّتي قال لي فيها أخي بسخرية أنني أمتلك كلّ مفاتيح العالم، إلّا مفتاح الفرج— بل يتعلّق الأمر بالإنهاك، بمقاومة التّعب الّذي ينشأ عن محاولاتنا المستمرّة لفتحِ أبوابٍ لا تكفّ عن الظهور، تعبٌ من مواجهة العديد من التحديات، من حمل العديد من المشاعر. إنه نوع مختلف من الإرهاق الذي يصعب شرحه لأي شخص لم يشعر به.

أفهم الآن، أكثر من أي وقت مضى، الشوق الذي كنت أراه في عيني والدي عندما كان يعود إلى المنزل. أفهم رغبة الآباءِ جميعهم باحتضان اطفالهم وزوجاتهم لحظة وصولهم البيت، لم يكن مجرد رغبة منهم في الرّاحة؛ بل كان إدراكٌ، واعترافٌ بإرهاقهم هم الآخرين، ولم أفهم تمامًا كم يمكن أن يكون حمل عبء المسؤوليات مرهقًا، كم هو صعب أن تحافظ على حركة الحياة، أن تواجه يومًا جديدًا، رغمًا عنك، لكن الآن، وأنا أقف أمام الباب، أبحث عن مفتاحي الخاص، أشعر بذلك، أفهمه وأعيه بشكلٍ كامل. ذلك الثقل الهادئ. الشوق لشخص يساعد في تخفيف العبء، يفتح الباب، يمسك طرفهُ لك، ولو للحظة.

الغريب في الأمر أننا نُمضي حياةً كاملةً في فتح الأبواب—سواء كان ذلك بالمعنى الحرفيّ أو المجازيّ—  ثم يأتي وقتٌ، يتوجّب عليك فيه أن تغلق كلّ الأبواب الّتي أفنيت عمرك محاولًا فتحها، سواءً كانت مؤدّية إلى أحلامك، أو قلبك، أو حتّى مخاوفك. مع الأسف، الباب لم يعد مجرّد عتبة حنونة إلى منزلي؛ بل هو تحدٍ ضد الإرهاق، إنّه رفضٌ للسماح لثقل الحياة بأن يسحقني تمامًا. ولكن في بعض الأيام، يبدو أن الأمر يصبح أكبر من طاقتي، فيكون البحث عن المفتاح، والجهد في فتح الباب—ساحقًا أصلًا.

قد يكون الباب هو المكان الذي ننتهي إليه، أو ربما نبدأ منه، لا يهم، لكن يبدو أنّ المعنى الحقيقي يكمن في القدرة على تركه مفتوحًا لمن يحتاج إلى الدخول معنا.

Comments

  1. Some people are waiting here for your next magical post Aya^^

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

تعال

الروائي في رأسي