سرُّ الطّيران
كثيرًا ما دارت بي الأفكار مؤخّرًا كالفَلك، تطوف حول المعاني ولا تمسّها، وتتراءى لي الحكايات كنجوم أنظر إليها ولا أطولها. قلت: سأكتب عن فتى يطحن القهوة بين السندويتشات ليوقظ عقله من ضجيجه، أو عن فتاة علِقت في طفولتها، لأنّ منزل الدمى لا يزال يتّسع لها.
هممتُ أن أكتب عن عمّان، حين يتهامس الشارعُ بالحكايات مساء الخميس، عن الحنين الذي يقف على أرصفة الذكرى، يستجدي ظلًّا مرّ من هنا أو هناك، وصعدتُ جبلًا، لأكتب القصة هناك، بعدما رفضت اللغةَ النزول من عليائها.
فكرت، ثم فكرت، ثم ظللت أفكر كما تدور الكواكب حول شمسها… لا تقترب، ولا تنأى. غابت الشمس، وطلعت، وما زلت أدور حول النص الذي يأبى أن يولد. كأنّه وَحيٌ أبت اللغة أن تناله، أو قداسةٌ لا تُكتب على عجل.
إنني لا أفتقر إلى الفكرة، بل أحملها في صدري كما يحمل المؤمن دعاءه في جوف الليل، لكنها ليست فكرة تُكتب على عجل، هي نورٌ على نور، ومقامٌ لا يليق به إلا وضوء الحرف. وأخشى إن كتبت، أن أُفسد عليه طهارته، أو أن أُدنّس بنقص العبارة تمام المعنى. فما أعانيه ليس قلّة في ما أُريد قوله، بل خشية أن يخرج ناقصًا، فتكسِر لغتي ما لا يقبل الانكسار.
وأذكر… كأنّ الزمان قد طُوي، تلك اللحظة الصغيرة التي فتحت فيها عين قلبي على هذا النّور، على هذا المعنى الذي لم أعرفه باسمٍ.
كنت في السادسة، لا أعلم من الدنيا الكثير، وأجرّ ظلال الحكايا كما لو كانت أثوابًا واسعة عليّ، جلست على طرف مكتبٍ في غرفة أختيّ الكبيرتين، وسألت، ببراءة الطين حين يدهشه المطر الأول: "هل الحب محرَّم؟"
ضحكتا، وقالت إحداهما وهي تلاعب دهشتي:
"ومن أين لطفلة أن تعرف الحب؟"
فأجبتها، وقد أمسكت بحقي في الإجابةِ كما يُمسك الطّفل بلعبته الجديدة: "أعرف أن لونه أحمر."
هكذا، كما كنا نلوّن دفاتر الطفولة، ظننت أن الحب لون، وأنّه أحمر كالقلوب التي أرسمها على زوايا القصص، أو كأغلفة الهدايا في ليالي العيد. كبرت، وكتبتُ عن الحب كثيرًا، كتبت كما يكتب من يرى الصورة دون أن يدخلها، لكنّي اليوم — والله — أشعر أني أملك الحق، كلّ الحق، أن أكتب عن الحب، بل وأن أُقاتَل من أجله.
لدي الحقّ بأن أكتب عنه بشراسة العارف، لا بارتباك الحالم، وأن أقول فيه قولًا لو سمعه العشّاق سكتوا.
-ما الحبّ؟
هو ذلك الشيء الذي لا تُدركه الحواس، ولكنّه يفيض على الجسد حتى يُثقله، ويُرهق الروح حتى يُطهِّرها. هو نارٌ تحرق الحُزن، تُبدّله أملًا، وسُكرٌ لا يُذهب العقل، لكنه يُرجعه إلى فطرته الأولى. الحبّ ليس خفقةً عابرة، ولا رغبةً تستعر ثم تخمد، بل هو مقامٌ من مقامات الوجود، لا يطؤه إلّا من خلع نعلي الغرور والخوف. هو فتنةٌ لا تُشبه فتن الدنيا، لأنها لا تُفسد القلب بل تُنضجه، ولا تُلهي عن الحق، بل تقود إليه، فما عرَف العاشق الصادق محبوبَه، إلا وانكشفت له صورة نفسه التي خفيت عنه سنينًا.
الحبّ أن ترى في وجه المحبوب صمت الحياة كلها، ذلك الصمت الذي يسبق الخلق، ويليه المعنى. أن تشعر أنّك كلما نظرتَ إليه، عُدتَ إلى شيء فيك لم تعرف أنك فقدته. أن تُصبح أقل صخبًا، وأشدّ تواضعًا، وأكثر يقينًا أنّ شيئًا ما في الكون يرتّبك لأجله.
هو ألّا تنظر إلى السماء وحدك دون أن تتذكّر من تحب، وألّا يمرّ الجمال أمامك دون أن تشتهي أن يكون شاهدًا عليه معك. أن تُصبحَ حذرًا من حزنه أكثر من حزنك، وأن تشتهي له النجاة كما تشتهيها لنفسك. أن تبكي دون أن تُكسَر، وتشتاق دون أن تشكو، وتنتظر دون أن تتململ، لأن قلبك صار يعرف أن المعنى أثمن من الزمان.
والعجب أن المحبّين، إذا تآلفت أرواحهم، تشابهت هيئاتهم أيضًا، كما تتشابه الخيول الأصيلة في مشيها، فإذا نظرت إليهما وهما صامتان، أحسست أن بينهما حديثًا لا يُقال، وإذا افترقا، بقي في الآخر هيئةٌ لا تزول من حبيبه، وملامح لا تعود كما كانت.
وقد يُشبِه العاشق معشوقه، لا في الخَلق فقط، ولكن في أثر الحبّ عليه. فإنّ للحب يدًا تُمسك بالوجه كما يمسك الخريف بالأوراق، يُبهتها، ثم يهبها بهاءً لا يعرفه الربيع. فيقول النّاس: تغيّر، وما تغيّر، بل سكنت ملامحه، واستقرّت في نظرته تلك النجاة القديمة التي وعدته بها روحُ الآخر.
ثم كان الشعور… ذلك الجمال الذي لا يُمكن شرحه بالكلمات. جمال الاستسلام أمام صدق لا يُراوغ، بين يدي حبّ لا يخشى أن يُظهِر حنانه، ولا يخاف من احتضان جرحك.
فإن أحببت، فليكن حبّك كإيمان الفارس بسيفه: لا يشكّ فيه، ولا يبتعد عنه، ولا يُلقيه… فما ذاق الحبّ من كان قلبه موصولًا بالخوف، وما رآه من لم يذق السُهاد فيه.
هو كالبحرِ في جلاله ورهبته؛ لا يُعطي من سره إلا لمن خاضه خاشعًا، ووقف على شاطئه مطأطئ الرأس، متوجّس القلب، كأنّه أمام محرابٍ من نورٍ وسرٍّ وقدَر.
هو بحرٌ لا تظهر أمواجهُ على السطح فحسب، بل تمتدُّ أعماقُه إلى حيث لا تبلغُ الأعين، ولا تَطولهُ المعارفُ ولا الفِطن. كلّ الذين عبروا ضفافه خِفافًا غرقوا في الزَّبد، أما الذين أحبّوا بعين الخشوع، فقد رست بهم سفنُهم على ضوء القمر، وسجدت أرواحهم لسكينةٍ لا تُشترى ولا تُنال إلا بالبذلِ الكامل للذات.
الحبّ بحرٌ، لا يُدرك إلّا بالغرق، لا يُقرأ في الكتب، بل يُرتّل في صمت القلب، حيث لا صوت إلا السكينة، ولا حضور إلا وجه الحبيب حين ينعكس على سطح الروح كما ينعكس القمر على الماء، هادئًا، مطمئنًا، واثقًا في السماء.
الحبُّ لوحةٌ تُقام على فناء الألم، تجمع بين بهجة الطفولة وحكمةِ الكِبر، ترسم في كل ضربة فرشاة وجه الحبيب، كأنّه سرُّ الوجود المكنون، هو الفنّ الذي يُبدعُ من بين الرماد، ويرسم على صفحة الغياب حضورًا لا يُمحى، وكلما امتزجتَ بالألوان، انسكبت من روحك على القماش أطيافٌ شتّى، وكلّ مساحة بيضاء، هي فسحةٌ للأمل، وقصةٌ لا تنتهي.
إن الحب إذا صدق، أصبح طاقة خلق لا توصف. يجعل من أكثرنا صمتًا شاعرًا، ومن أكثرنا منطقًا رسّامًا. يجعل من القلب مرآة للكون، ومن العينين نبعًا للمعنى. به كتبتُ، وبه ازدهرت كتابتي. ولأول مرة، أشعر أن لكل حرفٍ كتبته، ولكل سطرٍ خططته، معنى. أنني أخيرًا وجدت مَن أهديه كل شيء، كلّ لوحةٍ، كلّ حرفٍ، وكلُّ قصيدة. هذا النص… هو أكثر ما يمثّلني، وأكثر ما صدقت فيه. هو وطني بين كلماتي، ومأواي حين آتيه.
اليوم أنا شاعرة، تود لو تنثر القصائد على طول المروج، أودّ لو أنظم الشعر وأضبط القوافي وأحملها على أجنحة العصافير، في حين نجلس في السيارة معًا، وعبر النّافذة، يتلاشى العالم في ضبابية سريعة، أوركسترا من الحركة الصاخبة، تراتيل إيقاعية متلاحقة، الأفكار تنجرف كحلقة دخان، محمولة على نسيم الريح.. أنظر إليك، فأراني، بينما تحملنا الأيام، إلى شاطئ بعيد، نرسم منه طريقنا الجديد، وأتعلّم منك سرّ الطيران، بعد أن كنتُ أتعكّز على نفسي من قبلك.
- إلى أحمد، مَن علّمني سرَّ الطّيران.
Comments
Post a Comment