Posts

سرُّ الطّيران

Image
كثيرًا ما دارت بي الأفكار مؤخّرًا كالفَلك، تطوف حول المعاني ولا تمسّها، وتتراءى لي الحكايات كنجوم أنظر إليها ولا أطولها. قلت: سأكتب عن فتى يطحن القهوة بين السندويتشات ليوقظ عقله من ضجيجه، أو عن فتاة علِقت في طفولتها، لأنّ منزل الدمى لا يزال يتّسع لها. هممتُ أن أكتب عن عمّان، حين يتهامس الشارعُ بالحكايات مساء الخميس، عن الحنين الذي يقف على أرصفة الذكرى، يستجدي ظلًّا مرّ من هنا أو هناك، وصعدتُ جبلًا، لأكتب القصة هناك، بعدما رفضت اللغةَ النزول من عليائها. فكرت، ثم فكرت، ثم ظللت أفكر كما تدور الكواكب حول شمسها… لا تقترب، ولا تنأى. غابت الشمس، وطلعت، وما زلت أدور حول النص الذي يأبى أن يولد. كأنّه وَحيٌ أبت اللغة أن تناله، أو قداسةٌ لا تُكتب على عجل. إنني لا أفتقر إلى الفكرة، بل أحملها في صدري كما يحمل المؤمن دعاءه في جوف الليل، لكنها ليست فكرة تُكتب على عجل، هي نورٌ على نور، ومقامٌ لا يليق به إلا وضوء الحرف. وأخشى إن كتبت، أن أُفسد عليه طهارته، أو أن أُدنّس بنقص العبارة تمام المعنى. فما أعانيه ليس قلّة في ما أُريد قوله، بل خشية أن يخرج ناقصًا، فتكسِر لغتي ما لا يقبل الانكسار. وأذكر… كأنّ ال...

أبوابٌ لها أبواب

مرّ وقتٌ طويل على آخر مرّة أمسكت فيها القلم وشرعتُ بالكتابة، لكنّي اليوم نفضت الغبار عن أوراقي وكلماتي وجئت أكشفُ لكم شيئًا متعبًا وحزينًا على غير العادة. في طفولتي، كانت العودة إلى المنزل دائمًا فعلًا بسيطًا ومريحًا. كنت أسير بجانب والديّ، يدي الصغيرة تمسك بأيديهما، متسابقةً مع إخوتي بحماسٍ للدخول إلى البيت. ولكن عندما نصل إلى الباب، كان هناك شيء غريزي يدفعني للتراجع خطوة إلى الوراء، والوقوف بصمتٍ، لأترك لوالديّ الفرصة لفتح الباب أولًا. كانا يخرجان المفاتيح من جيوبهما، أصابعهما تلامس المعدن البارد للمفاتيح، وبسلاسةٍ متمرّسةٍ، كانا يفتحان الباب، يتركوننا ندخل إلى المنزل، ثم يغلقان الباب خلفنا. لم أفكر كثيرًا في ذلك حينها. كان الأمر مجرّد جزءٍ من الحياة اليوميّة، ولكن مع مرور الوقت، بدأ المعنى وراء هذا الفعل الصغير، الذي لم أكن ألاحظه، يتكشّف لي ويطفو على سطح أفكاري. إن هناك فنًا لفتح الأبواب، وهو شيء لم أفهمه تمامًا إلا عندما كبرت. في طفولتي، كان الباب دائمًا مدخلًا للدفء، للأمان، للمنزل، ولكن مع تقدّم العمر، أصبح نفس الباب شيئًا أثقل بكثير—شيئًا رمزيًا. لم يكن الأمر مجرد فتح باب للدخو...

الخلود

Image
إنها فكرة غريبة، أليس كذلك؟ أن يتحدّى كائنٌ ما الموت، ليس من خلال السحر أو الأساطير البعيدة، بل بطريقة صامتة وهادئة لا يُلاحظها أحد. —قنديل البحر الخالد، أو كما يُسمى علميًا (Turritopsis dohrnii)، اكتشف طريقًا للهروب من قبضة الزّمن، متجنبًا النّهاية الحتمية التي نواجهها جميعًا. لا يقاوم الزمن بضجيج وصخب، بل يتجاوزه بسكون، مستديرًا إلى الوراء ليعود إلى شبابه، وكأن الحياة ليست خطًا مستقيمًا، بل دائرة غير مُنتهية. جوهر هذا التمرّد على الزمن هو عملية تُدعى التحول الخلوي أو التمايز المتبادل (Transdifferentiation). هذه ليست مجرد عملية إصلاح أو تجدد، بل هي فعل من العصِيان، تحول عميق يعيد تعريف جوهر الحياة نفسها. تحدث هذه العملية عندما تقرر خلية ناضجة تمامًا التخلّي عن هويتها، وتتحول إلى شيء جديد كلّيًا، وكأنها تثور ضد قدرها. إنها ليست محاولة لشفاء الخليّة؛ إنها أعمق من ذلك. إنها إعادة كتابة للذات، تجردٌ كامل من ما كان لتصبح شيئًا جديدًا. بالنسبة لـقنديل البحر الخالد، هذه العملية هي مفتاح خلوده. عندما يواجه خطرًا أو ضغوطًا أو حتى يمرّ بعمليّة الشيخوخة الطبيعية، يقوم بتفعيل هذه العملية. الخلايا...

دالي والحب؟ لمَ لا

Image
سلفادور دالي، هو أحد أعظم الفنانين السرياليين في القرن العشرين، كان عبقريًا لا يعترف بالحدود ولا بالقيود. وُلِد في إسبانيا عام 1904، وتجلّت موهبته المبكّرة في الفن حيث أظهر قدرة مدهشة على رسم العوالم الغريبة والمشوّهة التي تعكس أحلامه وهواجسه. دالي لم يكن مجرّد رسّام، بل كان مغامرًا فكريًا وروحيًا، جعل من كل لوحة مزيجًا من العبث والعبقرية. كانت أعماله تتجاوز ما هو مرئي لتغوص في أعماق العقل الباطن، مستوحاة من علم النفس والفلسفة وعالم الأحلام. غالا، أو إيلينا إيفانوفا دياكونوفا، كانت امرأة من نوع آخر. روسية الأصل، ولدت عام 1894، وارتبطت بحياة دالي في مرحلة من حياتها بعد زواج سابق. كانت تكبره بعشرة أعوام، ولكن الفرق في العمر لم يكن حاجزًا بينهما. غالا كانت ملهمة، ساحرة، قوية الإرادة، وصاحبة تأثير قوي على الناس. وقد كان لها تأثير مُضاعف على دالي، إذ أنّها لم تكن مجرّد زوجة أو حبيبة، بل كانت شخصًا يفهم الفن والحياة كما يفهمهما هو، بل وربما بشكل أعمق. في عام 1929، كان اللقاء الّذي سيغير حياة دالي للأبد. حين التقى بغالا للمرة الأولى، كان شابًا غريب الأطوار لم يكن قد وجد نفسه بالكامل بعد. لكن ...

تعال

    الشّوق، أكثرُ المشاعر الإنسانيّة غموضًا وتعقيدًا، هو حالة وجودية تلتهم الروح برفق، صورة من صور العذاب النّاعم، هو الانجذاب نحو شيء بعيد، يرفض الزّمن أن يمنحنا إيّاه مرّةً أخرى. إنه التّوق إلى ما هو غائب، شعورُ لا يُحدد بمسافة أو وقت، هو الشّعور بالنّقص، بجزء من الذات ضاع في طيات الحياة ومعاركها، هو التعبير عن أن تلك اللحظات التي تركتنا لا تزال تملك قوة علينا، تُعيد تشكيلنا، تجعلنا نفكر في ما كنا وما صرنا عليه. إنه الشوق إلى ما لم نعد نملك. قد نشتاق إلى لقاءٍ لم يحدث، إلى كلماتٍ لم تُقال، إلى احتمالات ضائعة بين اللحّظات، فنصبح أسرى لأطيافٍ من الماضي، نتأملها في الصّمت وكأننا نحاول إعادة رسم خريطة طريق نحو أفق لم يعد موجودًا أصلًا. ربما يكمن جمال الشوق في استحالة تحقيقه. إنه الرغبة الدائمة في الوصول إلى ما لا يمكن الإمساك به، وكأننا نعيش في حالة دائمة من العطش لشيء لا يمكن إرواؤه.   أمّا اللوعة فهي الوجه الآخر للشوق؛ هو إدراك بأن الفجوة التي تركتها تلك الأشياء في قلبك قد لا تُملأ أبدًا. هو صراع داخلي بين الرغبة في التّمسك بالذكريات والرغبة في الهروب منها لتجنّب الألم. ه...

الاستعارة السادسة-الشّوكولاتة الدّاكنة

   في أرض بعيدة، يُطوى فيها الزّمن على نفسه، وتتساقط أوراق أشجارها مثل صفحات كتاب قديم، كان هنالك شجرة، لم تكن كأيّ شجرةٍ أخرى. كانت جذورها تغوص عميقًا في الأرض، تتشابك مع ذكريات منسية وأسرارٍ لم تُروَ. وأغصانها تمتد عاليًا إلى السماوات، وكأنها تبحث عن إجاباتٍ لأسئلةٍ ضاعت في الريح. لكن أغرب ما فيها كان ثمارها—قرون تحتوي بداخلها على جوهرِ المرِّ والحلو: الكاكاو. يقال في أسطورة إغريقيّة أن هذه الشجرة كانت موجودة منذ بداية الزّمن، وأن الآلهة همست في أوراقها، حتّى تُعلّم الكائنات الأولى مفارقة مهمّة من مفارقات الحياة—أن في المرّ يكمن الحلو، وفي الحلو يكمن المرّ. كان سكّان القرية الّتي نشأت حول الشجرة، يقدمون لها القرابين دائمًا، رغم أن الشجرة لم تكن تحتاج لأي منها، وفي المقابل، كانوا يحصدون ثمار الكاكاو منها. من هذه القرون، صنعوا شرابًا غنيًا داكنًا ودافئًا، أطلقوا عليه اسم "شوكولاة". كان شيوخ القرية يجمعون الناس، ليتناولوا معًا هذا المشروب، ثم يبدأون بالحديث عن ازدواجيات الحياة. "هذا الشراب"، كانوا يقولون، "هو قصّة الوجود. المرارة التي تتذوقها في البداية هي المعا...

البحثُ عن الجمال

Image
  بدأت حكايةُ الحقل الكبيرِ بزهرة توليب واحدة. خرجت بهدوء من رحمِ الأرض، وجودها كان متواضعًا، يكاد يكون غير مرئي في فضاءٍ واسعٍ يخلو من الحياة. لم تكن هناك عجلة في تفتّحها، ولا حاجة لها لأن تُلفت الأنظار. وقفت التوليب وحيدة، لكنها لم تشعر بالنقص. كانت تدرك شيئًا نغفله نحن البشر في ضجيج حياتنا —أن الجمال الحقيقي لا يكمن في الكثرة، بل في القوّة الصامتة للوجود بثقة وتفرُّد. في وحدتها، وجدت زهرةُ التوليب غايتها؛ وقفت شامخة وامتدت جذورها عميقًا في قلبِ الأرض، بينما كانت تتطلع نحو الشمس، ليس لأجل عيون الآخرين، بل للضوء الذي تبحث عنه بفطرة نقية. ثم، في ذلك السكون، بدأ التغيير. من تربة داكنة، ظهرت زهرة أخرى. لم تكن عجولة أيضًا، بل ظهرت بثبات. واحدة تلو الأخرى، نمت الزهور، كل زهرة تخرج ببطء، مستجيبة لنداء الأرض. لم يمتلئ الحقلُ فجأةً؛ كان تحوله تدريجيًا، كأنه استيقاظ صامت من نومٍ طويل. لم يكن مشهدًا مذهلاً، بل كان حوارًا صامتًا بين الأرض والسماء، بين التوليب والرياح، وبين الطبيعة والإنسان. إذ أنّ النّمو لا يُقاس بالسرعة أو العدد، بل بتناسق اللحظات وسكينة الحضور، كل زهرة كانت فريدة، لكنها في...