Posts

Showing posts from June, 2024

غِطاء القهوة البلاستيكي

Image
جرت العادة أن أذهب لأصطحب صديقتي حين نخرج معًا، وفي كلّ مرّةٍ نشتري القهوة سريعًا من بائِعٍ على الطريق، يضع لنا غطاءً بلاستيكيًا على الكوب. وكنت أنا أزيله دائمًا وألقيه في القمامة فورًا، مما كان يثير غرابة صديقتي. كانت تقول لي: "حذارِ، ستنسكب القهوة عليك يومًا ما بلا شك، وستحرقكِ!" لكنني لم أكن أكترث، واستمررت في فعل ذلك، كنت أقول لها: "لغطاء القهوة عندي معنىً فلسفي عميق لو أنّكِ تدركين." مرّة شرحتُ لها كم أكرهُ المجهول، لا أطيق فكرة النظر إلى الكوب دون أن أرى مقدار السائل فيه، خصوصًا إذا كان ساخنًا. قُلت: أنا أحبُّ اليقين، ولا أحب أن أتعامل مع الأمور كما يتعامل شرودينغر مع قطّته. شرحتُ لها أنني أُعامل حياتي كلها بنفس النّهج الّذي أُعامل فيه غطاء قهوتي. المستقبل مثلًا يرعبني، إذ يربكني كل شيء مُبهم وغامض، لذلك فإنّ كل غطاء أزيله هو رمز لإصراري على رؤية الأشياء كما هي، دون حواجز أو عوائق، دون أن يخفى عنّي شيء. فكرة المجهول تشبه الكوب المغطّى، تخفي عنا ما قد يكون، تجعلنا نتساءل، نخشى، ونتردد. لكن إزالة الغطاء هي إقدامٌ لمواجهة الحقائق، رغبة في الشفافية والوضوح، حتى لو...

الاستعارة الثّانية-الفتاة الّتي رسمت الحياة

في شرنقة مساحتها الضّيقة، عاشت فتاة في عزلة تامة لمدة اثني عشرَ عامًا، يحيط بها فقط بياض الجدران الفارغة ورفقة بسيطة من الأوراق البيضاء والألوان.  لم تثنها حدود واقعها، عن الشروع في رحلةٍ عبر خيالها لرسمِ الحياةِ داخل حدود الأربعة جدران. ابتدأت مغامرتها الفنّية بضرباتٍ دقيقة هادئة، كل لمسة فرشاة كانت محمّلة بوعدٍ صانته في روحها، أنّها بالرغم من كل شيء، ستلد الحياةَ في لوحاتها. ظهر الّلون الأخضر كملهمٍ متكرّرٍ على الجدران، حيثُ رسمت المروج المليئة بشغبٍ من الزّهور البريّة والأعشاب. حتّى أنّ الهواء حولها بدأ يتلألأ برائحة الأزهار، وتحولت الغرفة إلى ملاذ لمشاعر الزّهور وعِطرها. أصبح السّقفُ سماءً زرقاءً فاتحةً فوقها، لوحة بديعة، تدوي بظلال سماوية تتماثل مع الامتداد الشاسع الذي تتوق لاكتشافه. وزيّنت أوراقُ الخريف المشتعلة باللونين الأحمر والأصفر الناريّين الأرض، لتجسد الدورة الطبيعية للحياة والجمال الموجود في التغيير الحتمي. كشفت كل ضربة فرشاة عن قصةٍ في سرد حميميّ منسوج في بنيةِ فنّها. وزينت أزهار الكرز الرقيقة الغرفة، حيث تلتقط بتلاتها المتساقطة بهدوء جوهر السّكينة والسّلام ...

أضحَك يوم في حياة أمجد

Image
في أحد الأيام، ذهبت لأصطحب أمجد -ابن أختي البالغ من العمر أربعة أعوام- من المدرسة. كان لدينا خطة للخروج سويًا، فسألته عن المكان الذي يود زيارته، فأجاب بحماس أنه يرغب في الذهاب إلى مكان يبيع عصير البطيخ. بدأت أبحث في المحال عن أي متجر يقدم عصير البطيخ، ولكن دون جدوى. بعد بحث طويلٍ دخلت أحد المحلات، وكان أملي الأخير، وسألت البائع إذا كان لديهم عصير البطيخ. فردّ بخدعة تسويقية واضحة: "لا، لكننا نمتلك عصير فراولة رائع." كنت مرهقة من البحث المتواصل، ولم أُرد أن يحزن أمجد، فقررت القبول بعرض البائع. قلت له: "حسنًا، سآخذ عصير الفراولة لكن قُل للطفل أنّه عصير بطيخ." عندما أحضرَ البائع العصير، أخبرنا أمجد بأن هذا العصير هو عصير البطيخ الّذي بحثنا عنه طويلًا، وبالفعل انطلت عليه الخدعة. شرب أمجد العصير بتلذذ واستمتاع، وبقي شاكرًا لي لأنني بحثت بجهد كبير حتى وجدت عصير البطيخ الذي يرغب فيه. أثناء مغادرتنا للمحل، احتضنني أمجد وقال: "هذا أضحك يوم في حياتي" تعبيرًا عن مدى سعادته بعصير البطيخ المزيّف. خدعت أمجد ذلك اليوم وصنعت من نفسي بطلة زائفة. عندما سمعته يروي القصة لوالد...

الاستعارة الأولى-الرّجل الّذي زرع نفسه

في قلب مدينةٍ مترامية الأطراف، تجرّأ رجلٌ على كسرِ حدود الفكر التقليدي، مقتنعًا بأن مصيره يكمن تحت الأرض، بأن يزرع نفسه ويكون شجرة، بعد أن شعرَ طوال عمره بأنّه لا ينتمي للإنسان، ولم تكفه الحياةُ فوق الأرض، إذ أنّه ما وجد عليها راحةً أو ركنًا يكون لهُ منزلًا. لم تثنه سخرية وشكوك سكّان المدينة عن ذلك، فحفر خندقًا عملاقًا في مركز المدينة، وغرس نفسه فيه، وأبرز رأسه فقط بتحدٍ فوق الأرض. ترددت توسلاته الواثقة والمزعجة عبر المدينة، فكان ينادي المارّة أن يسقوه، حتّى يشهدوا تحوّل بذوره إلى شجرة مهيبة. ذابت الأيام في شهور، وبشكل مذهل، بدأت أغصان رقيقة تتشابك من رأسه. مع انطلاق الأغصان الخضراء، صمت المستهزئون، وحلّت الرهبة والإعجاب مكان ضحكاتهم. الرجل الذي كان يُسخر منه في السابق، أصبح الآن رمزًا وشهادةً ملموسة على قوّة الإيمان غير التّقليدي، الضحك الذي كان يطارده في السابق انحنى الآن أمام عظمة تحوله الشّجري. أصبح رمزًا حيًا على الطرق غير المتوقعة التي تكشف فيها الحياة عن أسرارها. وأصبحت أغصانه ملاذًا للطيور، وصنعت السناجب أعشاشًا بين أوراق الشجر، وارتقى وجوده إلى فوق العادي. ومع ذلك، كلما زاد حج...

أنتَ والجمال فيكَ

 هنالك أيّام، تضيقُ أسباب الفكر فيها، وتنحصر العاطفةُ منها، أيّام قويّة كريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ متناوحةٍ، تاتي مِن كلّ صوب، لو جَهدِ المرئ جُهده، وطوّق الرّجل نفسه بأشدّ عباراتِ الصّبر والسّلوان والأمل، ما أمسك من مجراها ولا أرسل، ولا نجى منها ومن خرابها ولا استبشر.  فجأةً، تنطفئ قدحة نورك، تتعقّد كل البسائط، وتتقصّى كل القرائب، لا شيء يدنو منك، لا أرضٌ تحملك، ولا نارٌ تدفِئُك، بل يستعرّ اللهب بقلبك المقفَر، ويمشي الزمان عليك كحزّ السيف، تنطوي في قلبك الحياة، ويخنقك ضيق الهواء، يلتبس عليك فكرُ عقلك وحلمُ نومكِ، فلا يعود الليل لك لباسًا، ولا يبقى في عينيك صفاء.  وما يكون منك سوا أن تترقّب، أنت مشروخٌ من الكتف إلى الكتف، لكنّك تنتظر أن تنحلّ عقدةُ الحياة، أن تهدأ رعدة قلبك، فيظهر لك موضع الرّحمة فيك، وتعي حجم العاطفة في روحك، وتدرك كمّ الحُسن الّذي تلاحظه عيناك، ومقدار السحر الّذي تستوعبه دنياك، وضخامةُ الحسّ الإنساني في خلدك، حتّى تكاد برقّتك تفوق الإنسانيّة، وتتجاوز البشر في القدرةِ على صبّ الشّعور. تنظرُ إلى الكون، فترى أنّه فيضٌ من جلالٍ وجمال، وكلٌّ فيه يغترف بمقدار كأسِه. ...