Posts

Showing posts from September, 2024

الاستعارة السادسة-الشّوكولاتة الدّاكنة

   في أرض بعيدة، يُطوى فيها الزّمن على نفسه، وتتساقط أوراق أشجارها مثل صفحات كتاب قديم، كان هنالك شجرة، لم تكن كأيّ شجرةٍ أخرى. كانت جذورها تغوص عميقًا في الأرض، تتشابك مع ذكريات منسية وأسرارٍ لم تُروَ. وأغصانها تمتد عاليًا إلى السماوات، وكأنها تبحث عن إجاباتٍ لأسئلةٍ ضاعت في الريح. لكن أغرب ما فيها كان ثمارها—قرون تحتوي بداخلها على جوهرِ المرِّ والحلو: الكاكاو. يقال في أسطورة إغريقيّة أن هذه الشجرة كانت موجودة منذ بداية الزّمن، وأن الآلهة همست في أوراقها، حتّى تُعلّم الكائنات الأولى مفارقة مهمّة من مفارقات الحياة—أن في المرّ يكمن الحلو، وفي الحلو يكمن المرّ. كان سكّان القرية الّتي نشأت حول الشجرة، يقدمون لها القرابين دائمًا، رغم أن الشجرة لم تكن تحتاج لأي منها، وفي المقابل، كانوا يحصدون ثمار الكاكاو منها. من هذه القرون، صنعوا شرابًا غنيًا داكنًا ودافئًا، أطلقوا عليه اسم "شوكولاة". كان شيوخ القرية يجمعون الناس، ليتناولوا معًا هذا المشروب، ثم يبدأون بالحديث عن ازدواجيات الحياة. "هذا الشراب"، كانوا يقولون، "هو قصّة الوجود. المرارة التي تتذوقها في البداية هي المعا...

البحثُ عن الجمال

Image
  بدأت حكايةُ الحقل الكبيرِ بزهرة توليب واحدة. خرجت بهدوء من رحمِ الأرض، وجودها كان متواضعًا، يكاد يكون غير مرئي في فضاءٍ واسعٍ يخلو من الحياة. لم تكن هناك عجلة في تفتّحها، ولا حاجة لها لأن تُلفت الأنظار. وقفت التوليب وحيدة، لكنها لم تشعر بالنقص. كانت تدرك شيئًا نغفله نحن البشر في ضجيج حياتنا —أن الجمال الحقيقي لا يكمن في الكثرة، بل في القوّة الصامتة للوجود بثقة وتفرُّد. في وحدتها، وجدت زهرةُ التوليب غايتها؛ وقفت شامخة وامتدت جذورها عميقًا في قلبِ الأرض، بينما كانت تتطلع نحو الشمس، ليس لأجل عيون الآخرين، بل للضوء الذي تبحث عنه بفطرة نقية. ثم، في ذلك السكون، بدأ التغيير. من تربة داكنة، ظهرت زهرة أخرى. لم تكن عجولة أيضًا، بل ظهرت بثبات. واحدة تلو الأخرى، نمت الزهور، كل زهرة تخرج ببطء، مستجيبة لنداء الأرض. لم يمتلئ الحقلُ فجأةً؛ كان تحوله تدريجيًا، كأنه استيقاظ صامت من نومٍ طويل. لم يكن مشهدًا مذهلاً، بل كان حوارًا صامتًا بين الأرض والسماء، بين التوليب والرياح، وبين الطبيعة والإنسان. إذ أنّ النّمو لا يُقاس بالسرعة أو العدد، بل بتناسق اللحظات وسكينة الحضور، كل زهرة كانت فريدة، لكنها في...

لماذا؟

منذ صغري، نشأت وأنا دائمًا تلك الفتاة التي تسأل "لماذا". لم يكن الأمر مجرّد عادة عابرة؛ بل كانت قوة تدفعني، فضولٌ لا أستطيعُ إيقافه. أذكرُ وأنا جالسةٌ في الفصلِ، أستمع إلى المعلمة تشرح شيئًا، كان ذهني يتجول فورًا إلى ما هو أبعد مما يُقال. إذا تعلمنا عن مبدأعلمي، لم أكن أريد فقط أن أعرف كيف يعمل، بل أردت أن أعرف لماذا هو كذلك وماذا سيحدث إذا كانت الأمور مختلفة عمّا هي عليه. عندما كنت أطرح أسئلتي على والديّ أو معلماتي، كان لديهم في بعض الأحيان إجابات، ولكن في كثير من المرّات، لم يكن لديهم أي شيء ليشفي عطشي للمعرفة. كانوا يقولون: "هكذا هو الأمر"، أو "سوف تفهمين عندما تكبُرين"، لكن تلك الردود لم تكن ترضيني، لم أستطع قبول الأمور كما هي ببساطة. أعتقد أن هذه هي النقطة التي بدأ فيها شعوري بأنني مختلفة. بينما كان الأطفال الآخرون يرضون بما يُقال لهم، كنت أنا أبحث في العمق، أبحث عن تفسيرات لم يكن أحد آخر مهتمًا بها. جعلني ذلك أشعر أحيانًا بأنني دائمًا على حافة فهم شيء لا يهتم به الآخرون. في بعض الأحيان، كنت أزعج الناس بأسئلتي التي لا تنتهي، ولكن لم أكن أمانع. بالنسبة...

الاستعارة الخامسة-خيّاط الرّوح

في يوم من الأيام، كان هنالك فتاةُ تبحث عن "خيّاطٍ" بارع ليصنع لها رداءً مميزًا، فسألت والدها إن كان يعرفُ شخصًا ماهرًا، فدلّها على صديقه الّذي افتتح دكّانًا صغيرًا قبل زمن طويلٍ. وصف والدها هذا الخياط ليس فقط بحرفيته، بل بمهارته في صناعة الملابس الّتي تتحدّث عن روح صاحبها، وكأنّه لا يخيط للبدن، بل للنفس. بالفعل، توجهت إلى دكان الخيّاط العريق، الذي يقع في شارع مزدحم، في حي قديم، في إحدى أزقّة المدينة، وكأنه منارة صغيرة للتاريخ. اللافتة فوق الباب تلاشت حروفها، وبالكاد تكون مقروءة، لكنها تهمس بحكايات عن زمن كانت فيه الأشياء تُصنع لتدوم. عندما دفعت الباب، أصدر صوت صريرٍ مزعجٍ، ورنّ جرس مهترئ، معلنًا وصولها. في الداخل، كان الهواء مشبعًا برائحة القماش والخشب العتيق، مزيج من شذى الحنين والتقاليد البالية الّتي ما عادت موجودة الآن يعشعش بالأجواء. رزم القماش كانت مكدسة بدقة على الرفوف، ألوانها الزاهية مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار. الجدران كانت مزينة بصور صفراء بفعل الزمن، تلتقط لحظات من الفخر والحرفية من زمن مضى. رأت طرحة عروسٍ معلّقة على الجدار، وكأنّها إثباتٌ على أنّ الفرح مرّةً زار ا...

الفن قلق

Image
الفن هو العبور من ظلمة القلق إلى نور التعبير، هو المساحة الفريدة التي تتحقق فيها الاضطرابات الداخلية وتتحول إلى جمالٍ ملموس. حين يثور القلق في أعماقنا، يتحول إلى طاقة خلّاقة تملأ الفضاءات البينية بين الفكر والإبداع. الفن هو تجسيد للألم والتوتر، هو الرسم الذي يروي القصة التي لا تُقال بصوتٍ عالٍ، ولكنه يصرخ عبر الألوان والأشكال. وعليه، فإن كل عمل فني هو تجسيد لحالة قلق غير مستقر مهما بدا العملُ جميلًا أو مستقرًّا بحد ذاته. إذ أن الإلهام الذي يغمر الفنان ليس سوى تعبير عن الصراع الداخلي، حيث تتقاطع المشاعر الحية مع الأشكال التي تترجمها. الفن إذن، هو انعكاس للمساحة غير المرئية من النفس، هو القلم الذي يكتب قصصنا المخفية، وهو اللون الذي يملأ الفراغات التي لا يصل إليها النور. حين يهدأ القلق، يتلاشى سحر الفن. تتحلل الألوان إلى مساحات فارغة، وتفقد اللوحات حيويتها. يصبح الفن في هذه الحالة مجرد ذكرى، مثل غيمة تطفو بعيدًا بعد العاصفة. تلك اللحظات التي ينفصل فيها القلق عن الفنان، تحوّل الأعمال الفنية إلى آثار باهتة، إلى قصص قديمة فقدت شغفها وقوتها. يصبح الفن في تلك اللحظات جزءًا من الماضي، كأثر للان...

الروائي في رأسي

  مؤخّرًا، أجد نفسي أعيش داخل رواية غير مكتوبة، وكأن كل موقف يمر بي هو سطر في كتاب طويل، لا أعرف خاتمته، لكنني أستمتع برسم تفاصيله. لا أرى اللحظات كما هي فحسب، بل أستشعر ما خلفها، وما تحتها، وما يمكن أن تحمله من معانٍ. حتى أبسط التفاصيل تأخذ حيزًا في ذهني، أُعيد تشكيل أحداث أيامي بأسلوب أدبي كمن يسعى لنسج خيوط المعنى من الفوضى اليومية. أصبح لكل لحظةٍ في حياتي نغمة سرديّة. فمع كل خطوة مسرعة في الصباح، وأنا أتنقل بين الزحام والوقت، ينبعث في داخلي صوت روائيّ خفيّ، يروي لي تفاصيل يومي بلغة فصيحة وأنيقة لا تخلو من الجمال والعبر، كما لو أنني الشخصية المحورية في قصة لا تُروى إلا لي. أشعر أنني أمزج الواقع بالحلم؛ حين أرى مشهدًا طبيعيًا يلفت انتباهي، أو حين ألتقي بشخص يحمل في وجهه بساطة الخير، أبدأ بتفكيك تلك اللحظة إلى كلمات، إلى استعارات وتشبيهات، وكأنني أكتب كل شيء في عقلي لأبقي به في مساحة تتجاوز اللحظة العابرة. حتى الأوقات الصعبة التي قد تبدو بلا معنى في لحظتها، تُعيد اللغة ترتيبها في ذهني كجزء من حبكة أعمق، حيث تتحول معاناتي إلى دروس، والعثرات إلى مواقف حتمية لا غنى عنها في بناء هذه ا...